أصبحت الدول العربية تعيش في دوامة من الأزمات الاجتماعية، والتراجعات الكبيرة على المستويات السياسية والاقتصادية، ولعل هذا ما دفع الإدارة الأمريكية إلى تسريع وتيرة تحركاتها لتصفية القضية الفلسطينية، ومحاولة فرض إرادة الاحتلال الصهيوني وشروطه وتصوراته لحل النزاع العربي الإسرائيلي المستمر منذ سبعين سنة.
فقبل أسبوعين قال المبعوث الأميركي لعملية السلام في الشرق الأوسط جايسون غرينبلات إن صفقة القرن التي تسعى واشنطن لتنفيذها في المنطقة باتت في مراحلها الأخيرة، وسيتم الإعلان عنها في منتصف هذا العام، ونقلت وسائل إعلام أن غرينبلات أكد لقناصل دول أوروبية معتمدين في القدس المحتلة أن الخطة الأميركية الجاري إعدادها تعتبر الفلسطينيين أحد أطرافها، لكنهم ليسوا الطرف المقـرِّر فيها.
تصريح هذا المسؤول الأمريكي وهو عضو في الفريق الأمريكي اليهودي لعملية السلام في الشرق الأوسط، الذي يرأسه جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومستشاره الخاص، جاء بعد الرفض العلني للفلسطينيين لمشروع (صفقة القرن) الذي وصفه الرئيس الفلسطيني محمود عباس بـ: “صفعة القرن”، وذلك بعدما اصبحت الخطوط العريضة المتعلقة بمضامين صفقة القرن واضحة للقيادة الفلسطينية، التي مثلت بدايتها اعتراف إدارة الرئيس ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارة الولايات المتحدة الأمريكية إليها”.
وحسب التقرير السياسي الذي قدمه أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، صائب عريقات لاجتماع المجلس المركزي الفلسطيني المنعقد يومي 14 و15 جانفي الماضي(2018م). تشمل خطة (صفقة القرن) ضم الكتل الاستيطانية الكبرى بالضفة الغربية لإسرائيل، وإعلان قيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح، وإبقاء السيطرة الأمنية لإسرائيل، إلى جانب الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، مع انسحابات تدريجية لإسرائيل من مناطق فلسطينية محتلة.
ورغم خطورة هذه الخطة الأمريكية اليهودية وانحيازها الكامل للجانب الإسرائيلي، فإن ردود الفعل العربية والإسلامية الباهتة لم تشكل أي قلق أو ردع للأمريكيين والإسرائيليين للتراجع عن مشروع (صفقة القرن). ولعل السبب في ذلك راجع إلى ما أسماه الشاعر العربي الكبير الراحل نزار قباني بـ: “هرولة” الدول العربية نحو التطبيع، فبعض الدول العربية تتعامل مع علاقاتها الآثمة بدولة الكيان الصهيوني كما تتعامل الفاسقة مع الحمل غير الشرعي بمحاولة التستر عليه، ففي السعودية التي تعتبر منبع الإسلام، وأغنى دولة عربية لم تصل الأمور فيها بعد إلى مستوى الإعلان الرسمي عن التطبيع مع إسرائيل، ولكن لقاءات التي تمت بين مسؤولين سعوديين سابقين ومسؤولين إسرائيليين، وتغريدات وتصريحات عدد من الإعلاميين السعوديين المطالبين بالتطبيع مع إسرائيل، وسجن ناشطة حقوقية سعودية هاجمت التطبيع مع إسرائيل، تعتبر كلها مؤشرات على أن علاقة السعودية تزداد بمرور الأيام دفئا وتقاربا مع الكيان الصهيوني، رغم أن الإدارة الإسرائيلية لم تتخل عن تصرفاتها العدوانية واللاشرعية تجاه فلسطين المحتلة، هذا دون التعرض للزيارات العلنية للوفود اليهودية لبعض دول الخليج أو الوفود الخليجية إلى إسرائيل .
أما بالنسبة لجمهورية مصر أكبر دولة عربية والتي كانت سباقة للتطبيع مع إسرائيل فقد وصلت الأمور إلى حد التعاون العسكري بين البلدين، فقبل أيام كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية عن تحالف سري بين مصر وإسرائيل، يتيح للأخيرة تنفيذ غارات جوية على محافظة سيناء، وقد نفدت بالفعل أكثر من مائة ضربة جوية. وكان آخر حديث إسرائيلي عن “صفقة القرن” في يوم 27 نوفمبر 2017م، على لسان الوزيرة الإسرائيلية جيلا جملائيل، خلال مؤتمر نسائي بالقاهرة، حيث قالت: “إن أفضل مكان للفلسطينيين ليقيموا فيه دولتهم هو سيناء”.
واللافت للانتباه أن مصطلح “صفقة القرن” ظهر للعلن في نوفمبر 2016م، أثناء لقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بواشنطن؛
ويمكن القول أن الرئيس عبد الفتاح السيسي تمكن في بضعة سنين من تحويل شعب عظيم صاحب تاريخ زاخر بالأمجاد والبطولات، ظل لعقود يمثل أمل الأمة العربية في التحرر والنهضة، إلى شعب مقهور، ومجتمع منقسم، ودولة فاشلة. وسبق لموقع صحيفة “ميكور ريشون” اليمينية الصهيونية، أن كشفت أن قادة “لجنة رؤساء المنظمات اليهودية” أبلغوا نتنياهو، أن السيسي أخبرهم في لقائه بهم، في القاهرة، أن “نتنياهو قائد ذو قدرات قيادية عظيمة، وهذه القدرات لا تؤهله فقط لقيادة دولته وشعبه، بل إنها كفيلة بأن تضمن تطور المنطقة وتقدم العالم بأسره”.
ومن أخطر مظاهر استمرار حالة الهزيمة هي سقوط الدول العربية في فخ الاعتقاد بأن إسرائيل لم تعد هي العدو الوجودي للأمة العربية، بل إنها يمكن أن تكون الحليف الاستراتيجي لها ضد إيران الشيعية.
ولعل من أنجع سبل التصدي لهذا الانهيار المتواصل في مجال التضامن القومي العربي، الانطلاق من ترميم الوحدة الفلسطينية، وجمع الصف الفلسطيني للتصدي للمخطط الشيطاني الأمريكي الصهيوني، وهذا ما قاله سليم الزعنون رئيس المجلس المركزي الفلسطيني اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير: “إن نجاحنا في التصدي لتلك المخاطر والتحديات، يتطلب تسريع خطوات تنفيذ المصالحة وإنهاء الانقسام، ووضع خطة لتعزيز الشراكة الوطنية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية”؛ خصوصا أن القادة الفلسطينيين يتفقون على رفض (صفقة القرن)، فبالإضافة إلى الرفض الرسمي لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس للخطة الأمريكية، قال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في 5 جويلية 2017م، عندما بدأت خطة صفقة القرن تتسرب إلى العلن: “لن نسمح أبدا بتمرير أي مشاريع تمس بالحقوق الفلسطينية الثابتة، وأن الشعب الفلسطيني لم يفوض أي طرف فلسطيني أو عربي أو كائن من كان بالتنازل عن حقوقه ومكتسباته، وسنتصدى لأي صفقة مشبوهة تنتقص من أي شيء من حقنا التاريخي في فلسطين باعتبارها صفقة فاشلة لن تلزم الشعب الفلسطيني اليوم ولا في المستقبل”.
في نهاية شهر جانفي المنصرم من هذا العام 2018م، أدرجت الولايات المتحدة إسماعيل هنية على لائحة الإرهاب الخاصة.