من تراثنا

ثقوا بأنفسكم يا قوم!

أد. مولود عويمر/

يجد القارئ في هذه السلسلة نصوصا قديمة متجددة حررها العلماء والأدباء الجزائريون حول قضايا عصرهم واهتماماتهم العلمية والأدبية والفكرية والسياسية الوطنية والعالمية. وحوت هذه النصوص المرجعية للفكر الجزائري المعاصر معينا غزيرا يغرف منه الباحثون المشتغلون على تاريخ الجزائر في القرن العشرين والدارسون لذخائر تراثنا. وألتزم هنا قدر الامكان بنشر الآثار المغمورة أو المتداولة بشكل محدود لننفض الغبار عنها ونحيي جهود أصحابها الذين لم ينصفهم دائما الباحثون لأسباب مختلفة. وأمهد في كل مرة بترجمة موجزة لصاحب النص، وبيان سياقه العام وعرض مختصر لمضمونه، وتعريف مقتضب للمصدر الذي اقتبست منه، وهي في غالب الأحيان عبارة عن جرائد ومجلات قديمة تعتبر في حد ذاتها وثائق مغمورة أو نادرة.

صاحب هذا المقال هو الأستاذ مولود قاسم نايت بلقاسم الذي مرت منذ أيام قليلة الذكرى الثلاثون لوفاته. لقد ولد في قرية بلعيال بأقبو (ولاية بجاية) يوم 6 يناير 1927. درس القرآن واللغة العربية في مدرسة القرية ثم توجه إلى مدرسة التربية والتعليم بقلعة بني عباس التابعة لجمعية العلماءالمسلمين الجزائريين. وفي عام 1944 سافر إلى تونس لمواصلة تحصيله العلمي في جامع الزيتونة حيث نال الشهادة الأهلية. وفي سنة 1948 سافر إلى مصر للدراسة في جامعة القاهرة فنال منها شهادة الليسانس في الفلسفة.
وكان دائما يزاوج بين التحصيل العلمي والنضال السياسي تحت إطار حزب الشعب الجزائري ثم حركة الانتصار من أجل الحريات الديمقراطية وبعد ذلك في جبهة التحرير الوطني. وكلفته قيادة الثورة التحريرية بتمثيلها الدبلوماسي في سويسرا وألمانيا الغربية ثم في بعض الدول الإسكندنافية. واشتغل بعد نيل الاستقلال في وزارة الخارجية ثم مستشارا في رئاسة الجمهورية وبعدها عينه الرئيس هواري بومدين وزيرا للشؤون الدينية والتعليم الأصلي. وقد أعطى لهذه الوزارة دفعا قويا بفتح معاهد إسلامية والإشراف على ملتقيات الفكر الإسلامي وإصدار مجلة الأصالة. وبعد خروجه من الوزارة اهتم بتأسيس المجلس الأعلى للغة العربية. وانتخب عضوا في مجامع اللغة العربية في مصر وسوريا والأردن تقديرا لجهوده في خدمة اللغة والثقافة العربية.
أصدر عدة كتب وهي: الإنية والأصالة، أصالة أم إنفصالية؟ بعض مآثر أول نوفمبر، شخصية الجزائر الدولية وهيبتها العالمية قبل 1830. وفضلا عن ذلك نشر مجموعة من المقالات في الصحف والمجلات الجزائرية وقدم العديد من المحاضرات خاصة في مجال التاريخ الجزائري الحديث والمعاصر. توفي يوم 27 أوت 1992 ودفن في مقبرة العالية بالجزائر.
كتب مولود قاسم هذا المقال وهو طالب في قسم الفلسفة بجامعة القاهرة، ونشره في جريدة «المنار»، العدد 18، الصادر في 27 فبراير 1953. وهذه الجريدة أسسها محمود بوزوزو في 29 مارس 1951. كانت تصدر في مدينة الجزائر مرتين في الشهر، وتعنى بالسياسة والثقافة والاجتماع والدين. استمرت الجريدة 3 سنوات ثم توقفت في 1 جانفي 1954 بعد أن صدر منها 51 عددا لأسباب مادية ومضايقات إدارية. كانت هذه الجريدة قريبة من حزب حركة الانتصار من أجل الحريات الديمقراطية، وتروّج لأفكاره الاستقلالية ومواقفه التحررية الصريحة، وتغطي نشاطات وأعمال قادتها مثل مصالي الحاج، فضلا عن مقالات في المسائل الثقافية والدينية والسياسية المختلفة.
وهذا المقال مشاركة من مولود قاسم في النقاش الفكري الذي أنطلق في جريدة «البصائر» ردا على السؤال التالي: «ما لهم لا ينطقون»، وشارك فيه أبرز الكُتاب والشعراء الجزائريين واحتضنته بعد ذلك جريدة «المنار». وإذا كان الكثير من المثقفين المشاركين في السجال الفكري يعتبرون الأدباء الجزائريين كسالى وقليل الكتابة لأسباب ذاتية خاصة بهم كالخمول والكسل والخوف والاستقالة أو لمعوّقات متعددة كقيد الحريات الذي تمارسه سلطة الاحتلال الفرنسية أو قلة المطابع وغياب التشجيع والمنافسة… فإن مولود قاسم يوجّه لومه إلى القراء الذين ينفرون من الكتاب الجزائريين تقليلا من شأنهم أو يزهدون في الإنتاج الأدبي والفكري الجزائري الذي يعتبرونه هزيلا ويجرون وراء الكتاب الأجانب وقراءة الأدب الأجنبي.
ويرى مولود قاسم أن هذا مرض يحتاج إلى المعالجة وتغيير الأذهان بإعادة الثقة في النفس وتقدير الذات وتثمين ما يكتبه الجزائريون فإنه يتميز كذلك بالقوة والإبداع بل يتفوّق على كثير من النصوص الأدبية والفكرية التي تأتي من خارج الجزائر. فالعلاقة قوية بين النص والقُراء، فلا يمكن أن يتطوّر أي أدب إذا لم يثق أهله في قيمته ويعتنون به حق العناية، ويحتضنه القراء من بلده أو من خارجه بالقراءة والمناقشة والنقد والإشعاع.
ولا شك أن خمول المثقف الجزائري عن الكتابة أو عزوف الناس عن القراءة أو تفضيل القراء لأدب الآخر أو الفكر الوافد ما زالت مشكلات قائمة بل تفاقمت مع ظهور وسائل الاعلام الجديدة وإغراء الوسائط الاجتماعية واستحواذها على عقول الناس وأوقاتها واختفاء الكتاب الورقي رويدا رويدا. وكل هذا يهدد العبقرية الوطنية والهويات المحافظة ويكرّس الثقافات الغربية المهيمنة والآداب الوافدة من العالم الاستعماري القديم والجديد.
«قلت في مقال الأول أنني أعلل هذا الركود الثقافي والعقلي في الجزائر … من زاوية خطيرة جدا تتصل بمقوماتنا وشخصيتنا كأمة لها تاريخ طويل في الكفاح وماض حافل بالشخصيات القوية في مختلف الميادين. وهذا ما أريد بيانه الآن.
إن المصيبة، وأكرر كلمة المصيبة – ليست في أن القراء لا يقرءون بل هي في أنهم مرضی. مرضى بمرض معد شملهم كلهم وبدون استثناء. وهذا المرض هو عدم إحساسهم بشخصيتهم وقلة ثقتهم بأنفسهم بملكاتهم وعبقريتهم الوطنية … فهم يرنون إلى كل ما يأتيهم من الخارج، متشوقين متحرقين ومعتمدين في ذلك كل الاعتماد على الغير لا کلا وتهاونا، الأمر الذي يعالج بسهولة ولكن لاعتقادهم أن كل ما يأتيهم من الخارج الشرق أو الغرب جيد ومفيد ويستحق الاهتمام وصرف المادة والوقت والمجهود العقلي، وأن كل ما يصنع بأيديهم هم ناقص وفي الدرجة الثانية إن استحق درجة أو حتى دركة؟
وكأن هؤلاء – أي نحن الجزائريين – موقنون بفقرنا الكلي وبعجزنا التام لا عن الإصدار إلى الخارج فحسب بل حتى لأنفسنا أيضا أو كما يقولون حتی للاستهلاك المحلي)…
إن المشكلة ليست في أن الجزائريين لا يقرءون بل أنهم أكثر الناس قراءة ولا أغالي في هذا. لقد اختلطت في حدود تجربتي الضيقة بكثير من الغربيين فلم أجدهم مع اعتناء الغربيين بالمطالعة في الضعن والاقامة –فلم اجدهم يصلون في الشغف بالمطالعة إلى الدرجة التي عليها القراءفي الجزائر، وإذا ما قارنتهم بالغربيين فلست محتاجا إلى مقارنتهم بالشرقيين إذ الغربيون يفوقونهم لما عليه انتشار التعليم هناك والوسط الثقافي، فالفارق أعمق وأوسع وأعلى بين الجزائريين والشرقيين وبمراحل. وإنما مصيبتنا هي في أننا نقرأ أي شیء يأتينا من الخارج، حتى ولو كان «البروكولة» أو «عشتروت» أو «جحجوح»…، ولا نقرأ أي شيء يصدر في الجزائر بل نستهین به ولو کان مفيدا نافعا و أنفع من المستورد، كما هو الأمر في كثير من الأحيان ولكنه المرض. إنه مرکب النقص والحكم على النفس بالعجز والقصور مقدما.
لقد بدأت بعض محاولات في الجزائر تبشر بعهد جديد ولأذكر على سبيل المثال إفريقيا الشمالية ولكنها ماتت في مهدها..
وليس هذا يصح في قراء العربية فقط بل حتى في قراء الغربيات إنهما يرحبون بكل ما يأتيهم من الخارج ويتلهفون عليه ولا يفكرون أبدا في أنه أنه يليق بكرامتهم كجزائريين أولا وكآدميين ثانيا – الاقتصار علیه و الوقوف عنده، بل إنه يتحتم عليهم أن يشاركوا في التراث الإنساني ويساهموا في الثقافة العالمية بأدبهم القومي المعبر عن آلام و آمال هذا الشعب العريق الذي فرض شخصيته على كتاب اللاتينية وكتاب الغرب فيكتب أمثال سالوس عن حرب يوغرطة، ويكتب أمثال زليرشين السويدي عن ابن معطي الجزائري الزواوي الذي سبق ابن مالك إلى الألفية، ويكتب الانجليز عن الأمير عبد القادر وغيرهم وغيرهم، ونحن لا نجد ما نكتبه عن أنفسنا لا في الماضي الحافل بالبطولات والزاخر بالمجد ولا في الحاضر الفياض بالمآسي…
إن أمثال هذه الظروف العصيبة التي نمر بها الآن لمادة لا نهائية للكتابة إن فيها لدوافع قوية لنفوس حية لو كانت هناك نفوس – لأن تسطر روائع من النثر الفني وخوالد من الشعر الصارخ الثائر…
إن الحياة إن هي إلا نفس، إلا حرارة، إن هي إلا زفرات الألم وتنفسات الصعداء. وهذا ما جعل أول فيلسوف عالم يوناني طاليس يربط بين النفس (بفتح الفاء) والنفس (سكونها) فيقول أن أصل العالم هو الهواء..
هل ليس في الجزائر لا تنفس الصعداء ولا زفرات الألم وتنهدات الأسى؟ إذن ليس هناك حياة!
إن على كتابنا وشعرائنا أن يخلدوا هذه الفترة الحاسمة الدامية من تاريخنا سواء قدر لنا أن نحيا فنتذكر هذه الظروف أو قدر لنا أن نموت – کالأندلس – فيقرأ الناس عن زفراتنا الأخيرة فنخلد احتضارنا وموتنا کما خلده الأندلسيون ولا نذهب هكذا هباء بدون خبر عنا اللهم إلا هذا الموت (اللامحس) کا يقول ابن رشد…
اكتبوا بالعربية كما هو واجب أو حتى بالفرنسية فهو على كل حال تاریخ دام يزيده احمرارا كتابته بلغة أجنبية إظهارا للمأساة في أسود صورها کما کتب أهل الأندلس بالقشتالية …:
اكتبوا وأطلعوا الناس على ما أنتم عليه وأطلعوا أنفسكم على وجودكم فتتأكدون من أنفسكم وتحسون بکیانكم بكتابتکم وشعوركم بأنكم تكتبون…
اکتبوا وثقوا أنكم لا تقلون عن كُتاب الشرق الذين كثيرا ما لا يزيدون عن ترجمة مشوّهة للغرب و اقتباس ممسوخ مفضوح.
اقرءوا الشرق والغرب ولكن اجعلوا الشرق والغرب يقرآنکم وثقوا أنكم تكتبون كأحسن ما يكتب الناس وتزيدون عنهم بالمادة الموضوعة للكتابة..
وكأني خرجت عن موضوعي فأصبحت أوجه كلامي إلى الكتاب والشعراء مع أني كنت أريد الكلام إلى القراء… فالقراء هم المرضى هم الذين يقرؤون أي شيء غير جزائري بتلهف واشتیاق وينظرون إلى كل ما هو جزائري باستخفاف وازدراء، وإذا لم يوجد القراء فلا يمكن أن يكون هناك کتاب وشعراء ولكن إذا كان القراء لا يقرؤون إنتاج وطنهم أليسوا مرضی؟
وهؤلاء الكتاب ألم يكونوا في يوم ما قراء مروا بنفس الدور الذي يمر به القراء اليوم؟ فاللوم على الكل إذن… وإلى أن يكون هناك قراء لإنتاج وطنهم وإلى أن يبرأوا من مرضهم هذا وإلى أن يثقوا بأنفسهم وإلى أن يحسوا بشخصيتهم وكيانهم ويوقنوا بمقوماتهم وعبقريتهم الوطنية، إلى ذلك اليوم لا يكونون جزائريين ولا يمكن أن يكون هناك أدب جزائري … فثقوا بأنفسكم یا قوم ولتكن لكم شخصية …»

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com