الحـــق الـمر

تفسير الرايس…

يكتبه د. محمّد قماري/

عجيبة علاقة البشر باللّغة، فـ(القمر) كلمة تدل على ذلك الكوكب المضيء في السماء، لكن قمر انشتاين عالم الفيزياء، غير قمر ذلك الرجل الساري في الصحراء، يهتدي به في طريقه، وهو غير قمر ذلك العاشق وقد خلا بمن يحب على شاطئ في ليلة صيف، وقد حاول مؤسس اللّسانيات البنيوية دي سوسير (Ferdinand De Saussure) التوسع في هذا المعنى فقال إن (العلاقة بين الدال والمدلول اعتباطية)، بمعنى افراغ كل الدوال من مدلولاتها…
فيغدو الاستعمار (رسالة حضارة)، والشعوب المستعمرة (بربر) ووحوش، و(الخمر) مشروب روحي، واختلاط الأنساب (حرية شخصية)، ربما غرّه هذا التفاوت في فهوم الناس في ضبط المدلولات، وهي ظاهرة صحيّة فالبشر في فهومهم متفاوتون، ولأجل ذلك سارع علماء الإسلام لوضع (المنهاج) في البحث أو المنهجية كما يسميها اليوم طلبة الجامعة، ذلك العلم الذي لم نسبق إليه بين الأمم هو (أصول الفقه) أي أصول أو مرتكزات الفهم الصحيح…
وذات سنة كنت طالبا، وكان معي شقيقي الصغير ربما كان في السنة الثانية ابتدائي، ولم يبق عن عيد الأضحى إلا ليلتين، وكنا مسافرين عند أقارب لنا، ولم تكن وسائل النقل كما هي عليه اليوم، وخرجنا مساء في حافلة تنقلنا إلى منتصف الطريق، وكنت أتصوّر أن المسافرين من أهل بلدتنا كثر على الطريق، ولن نعدم كرم أحدهم يأخذنا معه، وإن كان أهلي يعرفون مغامراتي مع السفر، فإن وجود أخي الصغير معي مبعث قلق لهم…
وحلّ الصباح وارتفع ضوء الشمس ولم نصل، وطار قلب أمي من صدرها، رحمها الله، واتصلت بتلك العائلة، وأثناء الحديث قالت الوالدة لسيدة البيت: (هل ما زلوا في الثنيّة)؟ والثنية تعني الطريق يربط بين الحواضر، كما في ثنيات الوداع المعروفة، لكن السيّدة لا تعني لها كلمة الثنيّة إلا تلك المحلة الواقعة شرق مدينة الجزائر، وكانت وجهتنا جنوبا، فقالت السيدة: وما علاقتهم بـ(الثنيّة) هم في طريقهم !
ولأن الكلام يجر بعضه، فلقد كان زوج تلك السيدة التي نزلنا ضيوفا عندها، قد قضى صدر شبابه مغتربا في باريس، ولا يعرف من العربيّة إلا كلمات تسعفه في العلاقات العامة، وسألته يومًا عن حاله: (لا باس)؟ فقال لي: لماذا (La baisse) الحمد لله أنا بخير! وهو محق لأنه لا يختزن في قاموسه الذهني معنى لـ(لا باس) إلا ذلك الصوت الفرنسي الذي يعني النزول، وحتى عند عرب المشرق لا يستعملون الكلمة للسؤال عن الحال، فالأصل في (البأس) هو الحرب، وأخذنا نحن منها ضيقها وعذابها وجعلناه للسؤال عن الحال…
وحينما كنت طفلا كان في حينا رجل غريب الأطوار، يأتي من أمور العقلاء الكثير، فهو يصلي في المسجد، ويحضر تلاوة ورد القرآن، لا يؤذي أحدا وأحيانا يعمل ويتكسب من عمله، وفي أحيان أخرى يكسل، وله قصص طريفة يرددها الناس، منها قوله: (كل الناس مجانين لكن كل واحد وجنونه)…
ومن أصعب الدروس التي ألقيها على الطلبة في (علم النفس المرضي)، درس السوي وغير السوي، فأسوق لهم العديد من المعايير، لكن لا أرى أنني أقنعتهم، بل حتى أنا غير مقتنع بما أقول! فما يزال في النفس شيء من (حتى)، من هو الإنسان السوي (العاقل) وغير السوي (المجنون)؟
صاحب النكتة والمتحدث أمام العيي الصامت أليس مجنونا؟ والكريم المتبسط أمام البخيل المقتر أليس مجنونا؟ والمقدام المقتحم أمام الجبان الخوار أليس مجنونا؟ لذلك فعبارة (الرايس) السابقة تبدو سليمة، وهكذا كان يعرف بين الناس (الرايس) حتى أن قليلا منهم من يعرف اسمه ولقبه، ولا أدري لماذا أطلقوا عليه كنية الرايس…
ولعل أطرف قصصه التي أعرفها هي خوضه في تفسير القرآن، فكنا نجتمع حوله في (شقوة) الأطفال، ويبدأ في تخريجاته المبهرة، كأن نقول له الرايس ما معنى قوله تعالى: «فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ» (الملك/3)، فيقول الرايس: كان الصحابة يعملون صباحًا (ويذكر لنا بعض الأعمال التي كنا نعرفها في بلدتنا)، ثم يرجعون إلى بيوتهم جوعى، ويخاطبون نساءهم: (هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ)؟ فأنزل الله الآية…
أتابع منذ مدة بعض الكائنات البشرية التي أصبحت باسم الفهم الجديد تتجرأ على الوحي، فأشاهد (رياسًا) جددا، فمنهم من رأى في كلمة (الخمار) ما لم يره العرب في لغتهم، ومنهم من رأى في الخمر غير ما عرفها شعراء المعلقات، ومنهم من رأى في (الجهاد) ما لم يقل به محمد، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه…
والفرق بين الرياس الجدد والرايس القديم الذي حدثتكم عنه، أن ذلك الرجل، رحمه الله، طيب وبسيط، وهؤلاء يتدثرون بدثار شهادات كبيرة ودعاوى عريضة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com