وراء الأحداث

الجزائر ـ فرنسا: صفاء عابر، وجفاء لا يدوم !

الجزائر ـ فرنسا: صفاء عابر، وجفاء لا يدوم !

أ. عبد الحميد عبدوس/

رغم البهرجة البروتوكولية والمجاملات الدبلوماسية وكثافة التغطية الإعلامية التي أحاطت بالزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الجزائر والتي دامت ثلاثة أيام من 25 إلى 27 أوت 2022 إلا أن التقييمات اختلفت حولها ، فإذا كانت جريدة (لوموند) الفرنسية قد اعتبرت الزيارة «خطوة في طريق المصالحة بين البلدين» فإن جريدة (الشروق) الجزائرية اعتبرتها «خطوة إلى الوراء في ملف الذاكرة»،كما اختلف تقييم الزيارة بين السلطات الرسمية في البلدين وبين مواقف بعض تشكيلات المعارضة فيهما، وبينما اعتبرت السلطات الرسمية في البلدين زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للجزائر «زيارة ناجحة وفعالة» و«زيارة تاريخية» اعتبر عبد الرزاق مقري رئيس (حركة مجتمع السلم) المعارض «أن رفع مستوى التنسيق في الهيئة المستحدثة «المجلس الأعلى للتعاون» إلى المستوى الرئاسي، إشارة واضحة لاختيار الجزائر فرنسا كشريك مفضل في العلاقات الدولية، مما قد يتسبب في تحولات غير مأمونة العواقب في الساحة الدولية» . في الجانب الفرنسي قدر زعيم حزب (فرنسا الابية) المعارض جان لوك ميلونشون ان زيارة ماكرون للجزائر «جاءت متأخرة بسبب عقلية الهيمنة لماكرون وبذلك أضاع على فرنسا فرصة الحصول على الغاز الجزائري قبل ايطاليا»، أما زعيم (الحزب الاشتراكي) المعارض أوليفييه فور فرأى أن «ضعف تعامل رئيس الجمهورية مع ملف الذاكرة يهين الذاكرة الجريحة».
عندما زار إيمانويل ماكرون الجزائر لأول مرة في فيفري 2017 بصفته مرشحا لرئاسة الجمهورية الفرنسية أثاراهتمام الجزائريين وإعجابهم بشخصه وبآرائه كسياسي فرنسي شاب متحرر من عقدة التعالي الاستعماري، وكان تصريحه الجريء الذي اعتبر الاستعمار «جريمة ضد الإنسانية» بمثابة قطيعة مع نزعة الغطرسة وسياسة الانكار التي دأب الرؤساء الفرنسيون قبله من شارل ديغول إلى فرانسوا هولند على ممارستها تجاه الجزائر،ولكن لما عاد ماكرون إلى الجزائر للمرة الثانية بصفته رئيسا للجمهورية الفرنسية اكتشف أنه ينتمي إلى جيل لم يشهد فترة الاستعمار ولم يتورط فيه هو ولا عائلته ولذلك فهويفضل البحث عن الحقيقة والاعتراف بدل الندم والاعتذار، وكأن التاريخ الاستعماري للجزائر ليس مسؤولية الدولة الفرنسية وإنما هو قصص فردية يتحمل كل إنسان مسؤولية مشاركته فيه، وكأن فرنسا التي لم تترك منكرا إلا فعلته في الجزائر،من إحراق الجزائريين أحياء بشهادة جنرالات الغزو الفرنسي، وسلب الاراضي وتدمير القرى والمداشر وحملات مسخ الهوية والتجهيل والتنصير، إلى مجازر الثامن ماي 1945 وكل أصناف التنكيل والتعذيب ومحاولات إبادة الجزائريين طوال قرن وثلث القرن، بل إن جرائم فرنسا ظلت حتى بعد خروجها من الجزائر تلاحق الجزائريين من خلال انفجار الالغام التي تركتها مزروعة في شمال الجزائر،وآثار النفايات النووية والتلوث الاشعاعي الناتج عن تفجير قنابلها النووية الأربع على سكان جنوب الجزائر، كل هذه البشاعات الانسانية لا تكفي لوصفها بـ «جرائم ضد الانسانية».
الرئيس إيمانويل ماكرون قفز على كل تلك الوقائع التاريخية من أجل إرضاء صنف من الفرنسيين الغارقين في الحنين الاستعماري، واقترح بدل الاعتذار تشكيل لجنة من المؤرخين لبحث ملف وجراح الذاكرة. هذا يذكرنا بمقولة راجت في الجزائر في ثمانينيات القرن الماضي في عهد حكم الحزب الواحد مفادها: «إذا أردت أن تقبر قضية ما فأسس لها لجنة». لعل هذا ما يضمره الرئيس الفرنسي من خلال اقتراح تشكيل لجنة من المؤرخين لبحث ملف الذاكرة قد لا تصل تلك اللجنة المقترحة إلى حقيقة أو نتيجة متفق عليها بين الطرفين الجزائري والفرنسي في خلال عقد أو أكثر من الزمن.
هناك اعتقاد فكري أو وهم سياسي متداول بين فئة واسعة من الطبقة السياسية الفرنسية ونخبها الثقافية والإعلامية يقوم على أن الصورة السلبية عن الاستعمار الفرنسي في الجزائر ستزول بمجرد زوال الجيل الحالي المتكون من المجاهدين وأبناء المجاهدين وأبناء الشهداء ومكونات الأسرة الثورية ومعهم الجيل الجزائري الذي عايش فترة ثورة التحرير الوطني وكان شاهدا على جرائم المستعمر الفرنسي.أي أن زوال الجيل الحالي من رجال الدولة والنشطاء السياسيين والمناضلين الوطنيين سيجعل الجيل القادم في الجزائر يرتمي في أحضان فرنسا منزوع الذاكرة ومفصولا عن القيم الوطنية. قد يكون هذا الاعتقاد أو الوهم السياسي هو الذي جعل ماكرون يراهن على جيل الشباب يؤكد أنه سيعمل على «شراكة جديدة من أجل الشباب ومن خلالهم»، حتى أن بعض الاوساط الفرنسية وصفت زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون للجزائر بأنها زيارة من أجل الشباب. ومن خلال هذه الرؤية خصص الرئيس ماكرون يوما من أيام زيارته الرسمية للجزائر للانتقال إلى مدينة وهران وزيارة شركة «ديسكو مغرب» المتخصصة في إنتاج موسيقى الراي. وحرص الرئيس ماكرون على توجيه رسالة من داخل الشركة إلى المغني والمنتج الموسيقي «دي جي سنيك» وهو فرنسي من أصول جزائرية يقول فيها: «أنا في محل تعرفه جيدا، نحن في وهران نحتفل بموسيقى الراي، أمس واليوم وغدا». ورغم أن موسيقى الراي هي موسيقى جزائرية وصلت إلى العالمية إلا ان الشائع عنها أنها انتشرت بتشجيع من اليهود الفرنسيين وأبناء الأقدام السوداء لأنها تمثل في رأيهم سلاحا ضد الثقافة الجزائرية الأصيلة المحافظة، والقيم الدينية الإسلامية. وربما كان الرئيس ماكرون قد اعتمد في اختياره لمدينة وهران على مؤثرات الرؤية الاستشراقية التي قدمها المغني دي جي .سنيك في الفيديو الغنائي «ديسكو مغرب» الذي قدم فيه صورة عن مدينة وهران كمدينة ماجنة بشبابها العاشق لموسيقى الراي والمتمرد على التقاليد. لكن يبدو أن سكان وهران المضيافة الجميلة بشبابها الحي وكهولها المحنكين أدركوا النية الفرنسية المستهترة باصالتهم، فأمطروا الرئيس ماكرون ومرافقيه بالهتافات الوطنية الجزائرية الشهيرة «وان، تو، ثري، فيفا لالجيري» (واحد، اثنين، ثلاثة، تحيا الجزائر)، وهو الذي كان يأمل أن يخلد صوره التذكارية في مدينة وهران وسط حمام جماهيري حاضن لزيارته الاستعراضية.
لقد كادت زيارة الرئيس ماكرون للجزائر تسبب حرجا أو صداما دبلوماسيا مع البلد المضيف حتى قبل حدوثها باعتزام الرئيس ماكرون تضمين اسم حاييم كورسيا كبيرحاخامات يهود فرنسا مع أعضاء الوفد الكبير المرافق له في زيارته الجزائر. وفي الأخير تم حل هذه العقدة الدبلوماسية بانسحاب حاييم كورسيا من الوفد الرسمي بداعي الإصابة بمرض كورونا ـ حسب تصريحه لوسائل الإعلام الفرنسية ـ أولأسباب غير معلن عنها. والحقيقة أن التحفظ الجزائري على قدوم حاييم كورسيا للجزائرلم يكن بسبب ديانته أو أصوله اليهودية ولكن بسبب مواقفه الداعمة لإسرائيل والمؤيدة لسياستها العدوانية العنصرية،فقبل حوالي أسبوع من الإعلان عن زيارته المحتملة للجزائر كان قد صرح بأنه يعتبر معادة الصهيونية شكلا من الأشكال المعاصرة لمعاداة السامية، وأنه يرفض وصف نظام إسرائيل بنظام الفصل العنصري، فالجزائر لم تعترض مثلا على وجود المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا رغم أصوله اليهودية ضمن وفد الرئيس ماكرون، بل إن الجزائر سبق لها أن كرمت الكثيرمن الشخصيات الفرنسية اليهودية المرموقة كالمحامية جزيل حليمي، أو الفنان روجي حنين، أو الصحفي جون دانيال، أو الكاتب هنري علاق، وغيرهم من اليهود الذين لم تدفعهم ديانتهم اليهودية إلى معاداة الجزائر والوقوف مع المحتل الفرنسي ضد ثورة الشعب الجزائري، وعلى العكس لقد دافعوا عن الثورة الجزائرية وعرضوا أنفسهم ومستقبلهم للخطر بسبب مواقفهم الانسانية الشريفة من الثورة الجزائرية. أما اليهود الفرنسيون الصهاينة أنصار الاحتلال الإسرائيلي فقد وقفوا إلى جانب المحتل الفرنسي كما وقفت دولة إسرائيل المحتلة إلى جانب الاحتلال الفرنسي، ووصل الحد بالموساد الإسرائيلي إلى تسليح مجموعات يهودية فرنسية مقيمة في قسنطينة لمواجهة الثورة ومحاربة شركائهم في الوطن من الجزائريين المسلمين، من بينهم المغني ريمون أحد أقارب المغني الفرنسي اليهودي، أنريكوماسياس كما كشف عن ذلك المؤرخ الفرنسي رولان لومباردي.
وفي الأخير يجدر القول إنه يمكن النظر إلى زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى الجزائر من الجانب الإيجابي والحكم عليها بأنها ناجحة في جانبها السياسي والإعلامي لأنها توصلت إلى توقيع إعلان مشترك بين الجزائر وفرنسا سمي «إعلان الجزائر من أجل شراكة متجددة»، ولأنها تمكنت من إذابة جليد العلاقات بين الجزائر وفرنسا وإنقاذ العلاقة بين البلدين التي كادت تصل إلى القطيعة عندما بادر الرئيس إيمانويل ماكرون من تلقاء نفسه في سبتمبرمن العام الماضي ( 2021) إلى تسميم العلاقات الجزائرية الفرنسية بتصريحاته الرعناء، التي نقلتها صحيفة «لوموند»، ىأن الجزائر «لم يكن لها وجود قبل عام 1962 إذ كانت فقط مستعمرة تركية ،كما أن الجيش الجزائري هو الذي رسخ في ذهن الشعب شيطنة فرنسا، وحاول زرع الحقد في عقول الشباب الجزائري تجاه فرنسا».
أما في الجانب الاقتصادي، ورغم توقيع عدد من الاتفاقيات منها في قطاع الطاقة بزيادة حجم تصدير الغاز الجزائريالذي أعلنت عنه لاحقا عدد من وسائل الإعلام الفرنسية، رغم تهرب الرئيس الفرنسي من الحديث عن موضوع الغازخلال الزيارة. الجدير بالملاحظة أنه لم يتم الإعلان عن ضخ استثمارات فرنسية جديدة في مجالات صناعية وتكنولوجية تعتبر فرنسا من الدول الرائدة فيها عالميا،كصناعة السيارات، وصناعة الأدوية. أما الاتفاقيات في الجانب الثقافي والتعليمي فعكست الاهتمام الفرنسي في باستعادة مكانة اللغة الفرنسية وترقية الفرانكوفونية في الجزائر، وإبقاء الهيمنة الثقافية في قطاع الفنون والسينما وغيرها من المجالات الثقافية ذات التأثير الجماهيري السريع. خصوصا في قطاع الشباب.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com