المسلم السهل والمسلم القوي
عبد العزيز كحيل/
لا تكون شخصية الإنسان متوازنة سوية إلا إذا تحققت فيها معادلة القوة والسهولة، وهذا ينطبق على المسلم قبل غيره بحكم انتمائه الديني، فهو لا يكون يابسا فقط فيكسر، ولا رطبا فقط فيهضم، بل يبتغي بين ذلك سبيلا، ويجمع في تناغم وتوازن بين القوة والسهولة.
• المسلم سهل ليّن: «ألَا أُخْبِرُكم بمَن يَحْرُمُ على النَّارِ، وبمَن تَحْرُمُ عليه النَّارُ؟ على كلِّ قريبٍ هيِّنٍ سهْلٍ» (حديث شريف رواه الترمذي).
الإنتساب للإسلام ليس تفلسفا ولا جدالا ولا ادّعاء إنما هو – بعد العقيدة الصحيحة وأداء العبادات – الخُلق الكريم والمعاملة الحسنة حتى قالوا في الأثر «الدين المعاملة».
فالمسلم الحقيقي هو الانسان الطيب الودود الذي يألف ويؤلف، يتعامل مع كل الناس بتواضع واحترام، يوقر الكبير ويرحم الصغير، هو في خدمة الناس وقضاء حوائجهم…تلقائي، سهل العشرة مع زوجته وأبنائه وزملائه وزبنائه وجيرانه، سهل في المناقشة، بعيد عن التكلف والصلف، سمح إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى (هذا نص حديث رواه البخاري)، إذا استُرضي يرضى بسهولة، إذا اعتذر له أحد يقبل الاعتذار…تتعامل معه في المسجد أو السوق أو السفر أو المال أو الجوار فتجده دائما سهل الجانب…هذا النوع تجده مبتسما، يقضي حوائج الناس، ويجبر خواطرهم، ويدخل السرور عليهم كلما استطاع ذلك.
هذا هو المسلم «القريب الهيّن اللين السهل»… محبب إلى الناس لحسن معاملته لهم، متواضع، حسن المعاملة، يقضي حوائج الناس وييسّر أمورهم…وقد تمثّل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الصفات الكريمة في سيرته العطرة حتى عُرف بين الناس مؤمنهم وكافرهم، وسارت بأخبارها الركبان… قارنوا بينه وبين من تجده صعبا في كل شيء، يجعل من الحبة قبة، يغرق في كأس من الماء (ويغرق الناس معه)، لا تكاد تتفق معه على أي شيء، حتى التوحيد – وهو أبسط شيء في الإسلام – يجعله مباحث لاهوتية تفنى فيها الأعمار من غير طائل، تقوم حوله معارك ضارية تقرّ بها عين الشيطان، ولا يستفيد منها الإسلام والمسلمون شيئا، فما بالكم بالتعامل مع العالم والجاهل ، والكبير والصغير، والقريب والبعيد، وصاحب الشأن والوضيع، والمسلم وغير المسلم…وما زال التاريخ يذكر ان قارة آسيا وكذلك إفريقيا السوداء قد فتحها المسلمون بواسطة اخلاق التجار ومعاملتهم التي كانت كتابا ينطق، ولا يخفى على عاقل ان القدوة تفعل ما لا تفعله الكتب ولا الخطب، لكن من الناس من يكون فيه شيء من الرعونة والصعوبة، والقرب منه مشكلة، إذا اقتربت منه فأنت لا تأمن على نفسك من غوائل ولو كان مسلما يحافظ على العبادات، صعبا شديدا، شكس الطباع، لا يمكن أن يُغضي، أو أن يتجاوز، أو أن يتنازل، أو أن يفوّت حقًّا من حقوقه، ومن حصل منه -في وهمه على الأقل- شيء من الإساءة في حقه، فإن هذا الإنسان الشديد لا يترك سبيلاً إلا سلكه من أجل استقصاء حقه، فتجد هذا في كل أموره، إذا وقف جاره عند بيته صارت مشكلة، ولهذا قد يصل الأمر أحياناً إلى وضع أحجار، وطوب وأشياء من أجل أن لا يقف أحد أمام البيت، ومن وقف فلا يلومن إلا نفسه، لو طفل صغير من أبناء الجيران رمى حجراً، أو نحو ذلك في فناء الدار، أو على الباب، أو نحو ذلك، هذه صارت، مشكلة تصل أحياناً إلى الشُرطة، لو أن أحد أولاده ضربه أحد أبناء الجيران، أو نحو ذلك ما تنتهي القضية، يقدم شكوى ويجرجر الجيران.
ولو لم يكن في هذا الحديث نجاة صاحب هذه الصفات من النار لكفى، فقد تكفل رب العالمين جل وجلاله بتحريم لحمه عن النار لأن هذه الأخلاق أكسبته حصانة بدايتها دعاء الناس له بالخير، ونهايتها رضا الله تعالى.
• المسلم سهل ليّن… وأيضا شهم قوي.
الحديث عن المسلم السهل الهين لا يقصد مه أنه إنسان يعيش على هامش الحياة، مغلوب يتجرأ عليه كل من هب ودب، يقبل بالظلم، يأكل أصحاب الشطارة أمواله فلا يعطونه حقا ولا يردون له ديْنا، ونحن نرى أن ذوي القوة والقدرة متجرئون على كل سهل هين… نحتاج إذًا إلى جانب السهل الهين مؤمنا قويا في بدنه و فكره وسلوكه، حينئذ سيقدر الناس سهولته و لينه.
فليكن الأمر واضحا: اللين ليس ضعفا ولا عجزا، والمؤمن الهيّن اللين ليس مغلوبا على أمره، إذا ضُرب على الخد الأيسر يدير الخد الأيمن، يحنى ظهره لكل ظالم ليركبه، ويمد رقبته لكل متغلب ليذبحه…كلا وألف لا، بل «المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف»: قوي روحيا وعقليا وسلوكيا، ليّن عن قوة ووعي وبصيرة وليس عن ضعف وانهزام نفسي وخوَر وجُبن…إذا تجاهل الإساءة فليس عن عجز بل يستطيع ردّها لكنه لا ينزل إلى مستوى المسيء…المؤمن صاحب عزة نفس لا يقبل الظلم والاعتداء والهوان والوقاحة وسوء الأدب بل تجتمع فيه اخلاق الاسلام وعلى رأسها المروءة والأنفة..بهذا يفرض وجوده وينال احترام الناس…كنت في شبابي أكثر الضحك من أثر رواه القشيري في رسالته يقول فيه إن متصوفا مشهورا لم يلبِّ رغبة لأحد الجنود فأمسك هذا بالعصا وصار يضربه والصوفي يردد: اضرب هذا الرأس الذي طالما عصى الله تعالى !!! هذا ليس تديّنا بل مثل سيء وقدوة خاسرة.
المسلم هيّن ولا يقبل الإهانة، ليّن سمح ويرفض التعدي على كرامته، متواضع مسامح يصل من قطعه ويتنازل لمن ظلمه لكنه لا يُذل نفسه بل هو عزيز كريم صاحب مروءة وأنفة وعزة نفس إذا بُغي عليه ينتصر، وإذا عفا كان ذلك عند المقدرة…الأمر صعب؟ ممكن، لكن الاعتدال صعب دائما لأنه يعني التوازن بدل الركون إلى جانب من الجوانب أو طرف من الأطراف.