لا تكن كُوفِيًا في هذا!!
الشيخ نــور الدين رزيق/
فإن الله سبحانه وتعالى قد فاضل بين الأمكنة ولم يسوِ بينها، ففضل بعض الأمكنة على بعض فجعل مكة خير بقاع الأرض حرماً آمناً وقال في ذلك: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ» وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ»، وفضل مدينة رسول الله وجعلها حرماً كمكة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك: «إِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ حَرَامًا مَا بَيْنَ مَأْزِمَيْهَا»، كما فضل بيت المقدس وجعلها أرضاً مباركة مقدسةً قال تعالى: «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَه». كما أن الله تعالى يختص ما يختصه من الأماكن، والأزمان، والأشخاص، والأعيان بأحكام تخصها.
و من جهة أخرى فقد وَرَد لَعن أرض بَابِل، والنّهي عن الصلاة فيها قال محدث الشام: وقد رَوى الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله بإسناد أوْضح مِن هذا عن علي رضي الله عنه نحوا مَن هذا: أنه كَرِه الصلاة بأرض بابِل وأرض الخَسف، أو نحو ذلك. وكَرِه الإمام أحمد الصلاة في هذه الأمكنة اتِّبَاعًا لِعلي رضي الله عنه، وقوله: نهاني أن أُصَلّي في أرض بابِل فإنها ملعونة. اهـ .
كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر وغيره، كما هو في «الصحيحة» (2246) قوله صلى الله عليه وسلم جَوَابًا على قول الرجل: وفي عراقنا: (بها الزلازل والفتن، وفيها يطلع قرن الشيطان).
وصدق شيخنا محمد البشير الإبراهيمي عليه رحمة الله «والعراق أعيا داؤه الرّاق».
قال الاوائل: (أبخل من كوفي) و(أغدر من كوفي)، والمشهور من غدرهم ثلاثة أشيـــــــاء كما ذكر البغدادي في كتابه القيم: «الفرق بين الفرق» (ص 37):
1- أنهم بعد قتل علي – رضي الله عنه – بايعوا ابنه الحسن – رضي الله عنه – فلما توجه لقتال معاوية – رضي الله عنه -غدروا به في «ساباط المدائن» وطعنه سنان بن الجراح الأسدي الجعفي في فخذه أو في جنبه فصرعه عن فرسه.
2- أنهم كاتبوا الحسين بن علي – رضي الله عنه – ودعوه إلى الكوفة لينصروه على يزيد بن معاوية فاغتر بهم وخرج إليهم فلما بلغ كربلاء غدروا به وصاروا مع عبيد الله بن زياد يداً واحدة عليه حتى قتل الحسين وأكثر عشيرته بكربلاء.
3- غدرهم بزيد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب.
بعد أن خرجوا معه على يوسف بن عمر ثم نكثوا بيعته – كعادتهم- وأسلموه عند اشتداد القتال حتى قتل وصلب
لنا وقفة مع هذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر بن سَمُرَة رضي الله عنهما، قال: شكا أهلُ الكوفة سعداً – يعني بن أبي وقاص رضي الله عنه – إلى عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه، فاستعمل عليهم عمّاراً، فشكوا حتى ذكروا أنه لا يُحسِنُ يُصلِّي، فأرسل إليه، فقال يا أبا إسحق، إن هؤلاء يزعمون أنَّكَ لا تُحسِنُ تُصلِّي، فقال: أمّا أنا والله فإنّي كنتُ أُصلِّي بهم صلاةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أخْرِمُ عنها. أصلي صلاتَيِ العشاءِ فأركدُ في الأولَيَيْنِ وأَخِفُّ في الأُخرَيَيْنِ . قال: ذلكَ الظنُّ بِكَ يا أبا إسحق، وأرسلَ معهُ رجلاً أو رِجالاً إلى الكوفة، فسألَ عنه أهلَ الكوفة فلم يَدَعْ مسجداً إلاّ سأل عنه، ويُثنونَ معروفاً حتى دخل مسجداً لبني عبسٍ، فقام رجلٌ منهم يُقال له: أسامة بن قتادة، يُكنّى أبا سَعْدَةَ، فقال: أمّا إذا نشدْتَنا، فإنَّ سعداً كان لا يسيرُ بالسَّرِيّة، ولا يقسِمُ بالسَّوِيَّة ولا يعدِلُ في القضيّة. قال سعدٌ: أَمَا واللهِ، لأدعونَّ بثلاثٍ: اللهمُّ إنْ كان عبدُكَ هذا كاذِباً قام رياءً وسُمعَةً، فأَطِلْ عُمُرَه وأَطِلْ فقرَهُ، وعَرِّضْهُ للفِتَن. وكان بعد ذلك إذا سُئِلَ، يقول: شيخٌ كبير مفتونٌ أصابَتْني دعوةُ سعدٍ . قال عبد الملك بن عُمَير الراوي عن جابر بن سَمُرَةَ: فأنا رأيتُه بعدُ قد سَقَطَ حاجِباهُ على عينيه من الكِبَرِ، وأنّه ليتعرَّضُ للجواري في الطرق فيغمزهُنَّ).
فقد شهد الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص جميع الغزوات مع النبي ﷺ، وقاد الجيش في معركة القادسية، وهزم الفرس، وهو فاتح مدائن كسرى، وباني الكوفة في العراق. وهو أوّل من رمى بسهم في سبيل الله، لم يسبقه في الإسلام إلا أبو بكر وعلي وزيد وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة والـستة الذين رشحهم عمر بن الخطاب لتكون إمارة المسلمين فيهم، و زاده رفعة اعتزاله للفتنة التي حدثت بين الصحابة من أهم مواقفه المشهودة، فعندما جاء إليه بعض الصحابة يسألونه القتال معهم، أخبرهم بأنّه لن يقاتل معهم حتى يعطوه سيفا له عينان ولسان يقول هذا مؤمن وهذا كافر.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتخر به ويباهي، فيقول إذا رآه: (هذا خالي، فليرني امرؤ خاله). وذلك أن سعد قُرَشيّ من بني زُهرة، وبنو زهرة هم قوم أم رسول الله، السيدة آمنة.
و قد ذكر أهل العلم فوائد و حكم يستفاد منها من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه:
1- استماع الحاكم لشكاوى رعيته على عُمّاله ومن ثَمَّ التحقيق فيها بُغية التحقق منها بسؤال الأكثر اطّلاعاً على الوضع من هؤلاء. ومن هنا سأل عمر أهل المساجد لأنّ الشكوى على سعد كانت تتعلق بالصلاة، وهي عدمُ إحسانه فيها لهم – لا بد من 2-وجود أصحاب الأهواء في أي مجتمع كما هو شأن أبي سعدة العبسي هذا إذ بدا – من التحقيق – أنه هو الوحيد الذي قدحَ في صلاة سعد رضي الله عنه.
3- جواز الدعاء على الظالمين فقد دعا الأنبياء على الطغاة في عهودهم . فهذا نوح دعا على قومه بقوله: (ولا تزدِ الظالمينَ إلاّ ضلالاً)، وهذا موسى دعا على الفراعنة فقال: (ربّنا اطمس على أموالهم، واشدد على قلوبهم)، ودعا محمد على قريش وقال: (اللهم اشدد وطأتَكَ على مُضَر، اللهم سنين كسنين يوسف).
4- استجاب الله لسعد في دعائه على أبي سعدة بردِّه إلى أرذل العمر وقد قيل: إنه عَمِيَ أخريات حياته، وزاد في فقره، وأشدُّها فضيحة تعرضه للصبايا في الطرقات يُعابثهنّ. ومعلوم أنّ سعداً كان مُجاب الدعوة، لطيِّبَ طِعْمَته.
5- ومن دلائل كذب أبي سعدة شهادةُ عمرو بن معديكرب الذي كان يُعَدُّ بألف فارس، وهو من جنود القادسية عندما سأله عمر عنه، قال: (متواضع في خِبائه، عربي في نَمِرَتِهِ، أسدٌ في تاموره، يعدل في القضية ويقسم بالسويّة ويُبْعِدُ في السريّة، ويعطِفُ علينا عَطْفَ الأُمِّ البرَّة، وينقل إلينا حقّنا نقل الذرَّة) أي النملة.
6- يجوز عزل الحاكم للوالي المشتكى عليه، ولو ثَبَتَت براءته، جَبَّاً لدابر القالة.