بطولة العفو والتسامح بين القلوب العابدة، والنفوس الحاقدة/ محمد مكركب

من المعلوم من الدين بالضرورة أن الصفح والعفو والتسامح من الفضائل التي يحبها الله تعالى، وهو سبحانه الذي قال: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فإذا كان هذا بشأن الأسرة، والتأليف بين الزوج والزوجة، فإن الأمر يكون أكبر وأهم، وأولى وألزم، بالنسبة لأمر الأمة، بين العالم والعالم، وبين الرعية والحاكم، وبين المظلوم والظالم، وبين أتباع الفرق والطوائف. فما دأب عليه بعض المقلدين في السياسة والدين، أنهم يعدون الصفح والتسامح مسبة وانهزاما، ويرون البطولة عندهم هي الأخذ بالثأر انتقاما. لكن القلوب العابدة أليفة عطوفة، تفضل الصلح والتسامح، والنفوس الحاقدة تفضل القبح والتناطح.

البطولة النفسية في مفهوم الوعي السياسي في التغلب على النفس وجعلها ترضى بما يرضاه الخالق، وهذه البطولة هي الأصل في منهاج السياسة الشرعية،  وقوام البطولة في الوعي السياسي: قدرة ثبات المسلم في الوقوف صامدا أمام تسويل النفس، ونزغ الشيطان، وإرجاف الرعاع، البطولة النفسية عند المسلم  عندما يستطيع أن يحلم حين يطيش عقل الجاهل بالغضب، وهو الذي يرد على الاستفزاز والصخب، بجميل الحلم والأدب. وهنا يأتي السؤال الأول: هل عفو المظلوم عندما يكون قادرا على الانتقام من ظالمه الذي آذاه وتمرد عليه وعاداه، هل عفوه  وصفحه عنه يعتبر خدشا في الكرامة، وانتقاصا من الشهامة، وانهزاما يلام عنه؟ وهل يجوز له شرعا التنازل عن حقوقه؟

لقد بحثنا في المنظومة الأخلاقية وفيما يحبه الله تبارك وتعالى فعلمنا أن الله جل جلاله يحب الصابرين، وأمر نبيه محمدا بنَ عبد الله عليه الصلاة والسلام، إلى الصبر، فدعونا المتخاصمين إلى الصبر، وعلمنا من القرآن  والسنة أن الله تعالى حليم يحب الحلم والأناة فدعونا المتنازعين إلى هذين الخلقين الجميلين، والله عفو غفور، ويدعو إلى العفو والغفران، فقلنا: إن بطولة العفو والتسامح أعظم من بطولة التنازع والغلاب، ويتوب الله على من تاب واتبع الصواب، فتذكروا يا أولي الألباب. وقلنا لإخواننا المتنازعين في اليمن وسوريا والعراق وليبيا وغيرها من البلدان: إن البطل هو الذي يعفو ويسمح، إن البطل هو الذي يتوقف عن توجيه السلاح نحو أخيه ويغفر ويصفح، ولا يقال عن المتسامح أنه ضعف وانهزم أمام الجموع، إذا تنازل لإخوانه وأوقف إراقة الدماء والدموع، ولا يقال للطرف الثاني الذي تم التسليم له بأنه البطل المغوار، إنما البطل من انتصر على الشيطان. فمن الذين مدحهم الله في كتابه، وذلك من صفات المتقين أنه  جل جلاله قال: ﴿وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ قال الإمام المفسر القرطبي:{ وكظم الغيظ رده في الجوف، يقال: كظم غيظه أي سكت عليه ولم يظهره مع قدرته على إيقاعه بعدوه..قال: والعفو عن الناس أجل ضروب فعل الخير، حيث يجوز للإنسان أن يعفو حيث يتجه حقه. وكل من استحق عقوبة فتركت له فقد عفي عنه} وفي الحديث. عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الحُورِ شَاءَ] (الترمذي. كتاب البر والصلة.2021) وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[ مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ رَجُلًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ] (الترمذي.2029)

السؤال الثاني: هل التقاتل بسبب النزاع السياسي بين المسلمين مشروع، وما ذنب الأطفال والنساء، والمحايدين؟ وتخريب العمران؟ وهل تدمير البلدان بسلاح يشترى من عند الأعداء يرضاه الله تعالى؟ إن قتل الأبرياء ونشر الرعب والفساد، باطل وفساد.  نعم، تقول ما هو الحل؟ وهل لك الجرأة على رفض الحل الذي أمر الله تعالى به؟ ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ (النساء: 59) تعالوا إلى حوار مفاتيحه وضوابطه الكتاب والسنة. ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ وهل الفتن بين الطوائف المتقاتلة في الحروب الأهلية في البلدان الإسلامية يشملها حكم الحديث. عن الأحنف بن قيس، قال: ذهبت لأنصر هذا الرجل، فلقيني أبو بكرة فقال أين تريد؟ قلت: أنصر هذا الرجل قال: ارجع فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إِذَا التَقَى المُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ فِي النَّارِ]، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا القَاتِلُ فَمَا بَالُ المَقْتُولِ قَالَ: [إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ] ( البخاري. كتاب الإيمان.31) وهل يظن عاقل أن جماعات تحمل السلاح وتقتل بعضها وغيرها، وتريق الدماء، وتحدث الرعب والدمار بين المسلمين، وتخالف القرآن والسنة، وتحسب أن ذلك  في حكم الهوى لاحساب عليه ولا عقاب؟

هل قرأتم هذا الحديث؟ عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه، ففزع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا] ( أبو داود. كتاب الدب.5004)

وإذا كان لايحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فكيف به يقاتله؟ عن الزهري، قال: حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [لاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ] ( البخاري.كتاب الأدب.6065)

قال محاوري: لكن العلماء اجتهدوا وتنوعت فتاواهم من  أيد جهة على جهة ورآها على حق، ومنهم من دعا إلى المصالحة والحوار، ومنهم من سكت، وها أنت تدعو إلى الصلح، ونحن نعلم أن الصلح خير؟  ولكن ما العمل في هذا الواقع المضطرب والفوضى العارمة؟ الجواب في فهم الآيات من سورة الحجرات. قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾

قال القرطبي:{ قال العلماء: لا تخلو الفئتان من المسلمين في اقتتالهما، إما أن يقتتلا على سبيل البغي منهما جميعا أولا. فإن كان الأول فالواجب في ذلك أن يمشى بينهما بما يصلح ذات البين ويثمر المكافة والموادعة. فإن لم يتحاجزا ولم يصطلحا وأقامتا على البغي صير إلى مقاتلتهما. وأما إن كان الثاني وهو أن تكون إحداهما باغية على الأخرى، فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب، فإن فعلت أصلح بينها وبين المبغي عليها بالقسط والعدل. فإن التحم القتال بينهما لشبهة دخلت عليهما وكلتاهما عند أنفسهما محقة، فالواجب إزالة الشبهة بالحجة النيرة والبراهين القاطعة على مراشد الحق. فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا به من اتباع الحق بعد وضوحه لهما فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين. والله أعلم}

وهنا مسألتان: الأولى: من هو الذي يمشي بين الفئتين بما يصلح ذات البين، إذا كان النزاع أوالقتال بين فئة من الأمة وولي أمر المسلمين في بلد؟ فالمؤكد أن التقاتل محظور، لكن من الحكم؟ والثانية: إذا كان النزاع أو القتال بين طائفة مذهبية سببها التعصب المذهبي المقيت، وأخرى مقهورة معتدى عليها ثم حقدت؟ وقد يكون النزاع لأسباب مادية، أو أحقاد فتن تاريخية توقظ بحساسيات. ففي كل هذه الحالات يقتضى الحال، أن تكون مرجعية مسؤولة، ومادام النزاع في كثير  من البلدان  يقحم فيه الأمراء السياسيون ويدخلون حلبة النزاع، فالهيئة المكلفة بحل هذه القضايا حلا سلميا وسليما، هم العلماء. لكن لماذا دعونا الأطراف مباشرة للتعقل والتسامح والتنازل والتصالح؟ لأن العلماء أنفسهم هم في حاجة ماسة أكثر من غيرهم إلى من يعظهم ويدعوهم إلى التسامح والتفاهم والاجتماع، وهذه مشكلة قضايا العصر. ﴿وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ 

 

 

 

 

 

 

 

Exit mobile version