أسباب النهضة الحضارية وتحصين العزة والسيادة المجتمعية
أ. محمد مكركب/
أولا: ما معنى قولنا: أسباب النهضة الحضارية؟ فما هي النهضة: النهضة هي: الطَّاقَة وَالْقُوَّة والوَثْبَةُ والقَوْمَة، فِي سَبِيل التَّقَدُّم الاجتماعي، وقِوَامُ الوثبة الحضارية: الخريطة المجتمعية الشاملة لكل مقتضيات المستقبل وتصور كل الحاجات المتنامية بالتلقائية الطبيعية التي تم تعيين أسبابها. فالنهضة من النهوض وهو القيام بالعلم والإيمان والأخلاق والعمران، المؤدي إلى بنيان يدوم للأزمان. والحضارة المقصودة هنا: من الحضور: حضور كل الضروريات والحاجيات والكماليات والجماليات لمتطلبات الحياة المدنية، فالحضارة: حضور الإنسان الإنساني المتدين المتخلق المتعلم المبدع المثقف، في المكان والزمان المحددان، بمقاييس تقدم الإنسان، مع حضور الوسائل والأدوات التي بلغتها البشرية في زمان الأمة الناهضة المتحضرة، ولذلك قالوا في تعريف الحضارة أنها نقيض البداوة، وهذا تعريف لا يفي بالمعنى. ولما قالوا:الحضارة في الأصل: الإقامة في الحضر، على أساس أن الإقامة في الحضر، حيث يوجد كل ما يحتاجه الإنسان. ثم استخدم مصطلح الحضارة في العصر الحديث للدلالة على مظاهر الرقي العلمي والفني والأدبي والاجتماعي. ولكن انتبهوا: ففرق بين الذين ينهضون، ويحققون هم لأنفسهم الرقي بكل أنواعه، وليس أولئك الذي يستعملون ما صنعه واخترعه غيرهم، ففرق بين المنتج والمستهلك. فالمستهلك ولو كان يتمتع بأرقى الوسائل الحضارية في العالم، فلا يعد متحضرا، إنما هو بدوي، إنما الحضري الذي يصنع الحضارة، وقديما قالوا: المكسي بإزار الناس عريان، فالشعوب التي لاتنتج ما تأكل او ما تركب أو ما تلبس فهي الشعوب الفقيرة المسكينة، والشعوب التي لا تصنع سلاحا تدافع به عن نفسها فهي ميتة تنتظر وقت دفنها. وعلى القوم أن يتعلموا كيف يقيمون الحضارة وهذا سهل ميسور إن شاءوا، وأن يتعلموا كيف يحافظون على الحضارة، وهذا سهل على العقلاء، صعب على الجهلاء السفهاء.
فما هي أسباب النهضة الحضارية.؟ السبب، مفرد: والجمع أسباب، والسبب ما يؤدّي إلى حدوث أمر أو نتيجة، وما يتوصّل به إلى غيره. قال الله تعالى: ﴿وَءَاتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا. فَأَتْبَعَ سَبَبًا﴾ أخَذ بأسباب الحضارة: استخدم مقوّماتها، لتحصيل ما يحتاج إليه من مستلزمات المعيشة، للعبادة، والعمران، والدفاع. ونذكر من جملة أسباب النهضة الحضارية، وهي في نفس الوقت أسباب حماية العزة والكرامة والسيادة المجتمعية والوطنية، كرامة الأمة وسيادة الدولة. والسيادة المقصودة هنا: الشرف والحرم المعبران عن كيان الدولة. بأصولها وثوابتها وهيبتها، وشعبها، وإقليمها، ووحدة رايتها، وعملتها، ولغتها، واحترام سلطانها، وما يحقق كل ذلك وحدة وتعاون علمائها وجيشها.
والدفاع عن سيادة الدولة وكرامة الأمة بقوتين: قوة أصلية أساسية، وهي القوة الحقيقية للدفاع عن الوطن، وأعني بذلك: قوة الولاء الوطني العام، الذي قوامه: التربية الإيمانية المستمدة من الشريعة، والعدل الذي قوامه الشريعة، والتكامل العمراني وفق أحكام الشريعة. والقوة المعلومة التقليدية وهي الجيش. وقوة الجيش لن تغني شيئا بدون كمال القوة الولائية المخلصة لكل أفراد الرعية. فافهموا هذا يامن تريدون الدفاع عن كرامة الأمة وسيادة وحرمة وكيان الدولة، فالقوة الحقيقية الثلاثية العظيمة: الشريعة ومنها التربية الإيمانية، وقوة العدل والقضاء في الحكم بالشريعة، والتكامل العمراني في نهضة اقتصادية شاملة. وهذا هو السبب الذي نبدأ به إن شاء الله تعالى. إنه التكامل العمراني.
1 ـ التكامل العمراني: أو شمولية أداء الأمانات. ومعنى التكامل العمراني هو أن يؤدي كل فرد في المجتمع دوره الوظيفي المهني والاجتماعي والأسري. قال ابن خلدون ليبين وان مفهوم مصطلح العمران البشري يجمع علم الاجتماع والاقتصاد معا. قال:{الباب الأوّل من الكتاب الأول في العمران البشري، على الجملة وفيه مقدمات، الأولى في أنّ الاجتماع الإنسانيّ ضروريّ. ويعبّر الحكماء عن هذا بقولهم الإنسان مدنيّ بالطّبع أي لا بدّ له من الاجتماع الّذي هو المدينة في اصطلاحهم وهو معنى العمران وبيانه أنّ الله سبحانه خلق الإنسان وركّبه على صورة لا يصحّ حياتها وبقاؤها إلّا بالغذاء وهداه إلى التماسه بفطرته وبما ركّب فيه من القدرة على تحصيله إلّا أنّ قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء غير موفية له بمادّة حياته منه…} (المقدمة:1/54) تدبر كلام ابن خلدون:{إلّا أنّ قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء غير موفية له بمادّة حياته منه} وليس الغذاء فحسب، بل وكل الحاجات على الإطلاق. وهذا معنى ماقلناه:{أن معنى التكامل العمراني هو أن يؤدي كل فرد في المجتمع دوره الوظيفي المهني والاجتماعي والأسري} وهذا التنظيم والتنسيق والإعداد بالإحصاء والتخطيط، هو واجب الحكومات في الدول.
ومن مقدمة ابن خلدون أيضا. نقتطف هذه الفقرات في موضوع بناء الدولة العظيمة. قال مما نقله المسعوديّ (من كلام الحكماء في التاريخ البشري.) {أيّها الملك إنّ الْمُلْكَ (الدولة) لا يتمّ عزّه إلّا بالشّريعة والقيام للَّه بطاعته، والتّصرّف تحت أمره ونهيه، ولا قوام للشّريعة إلّا بالْمَلِكِ (إمام الدولة أو رئيس الدولة) ولا عزّ للملك إلّا بالرّجال، ولا قوام للرّجال إلّا بالمال، ولا سبيل للمال إلّا بالعمارة، ولا سبيل للعمارة، إلّا بالعدل، والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة نصبه الرّبّ وجعل له قيّما وهو الملك، (هو رئيس الدولة) . كلام عظيم ليعمل به العظماء.} المقدمة: 1/51) وكأن مقدمة ابن خلدون ونظرية مالك بن نبي في الحضارة ملخصتان في هذا الفصل. في الكتاب الأول من المقدمة.
2 ـ العدل المجتمعي: أو إحقاق الحقوق بالتمام. والعدل قوامه ستة أركان:
الركن الأول: وجود قانون عادل واضح، ودائم، يحقق حماية كل الحقوق، وفي المجتمع المسلم، لايُسَنُّ القانون إلا من القرآن والحديث والإجماع. الركن الثاني: وجود القاضي العالم الفقيه المخلص الأمين النزيه، الذي يعلم معنى (القضاة ثلاثة) الركن الثالث: تعميم التطبيق القانوني على كل أفراد المجتمع على الإطلاق. الركن الرابع: أن تعود قوة تنفيذ الحكم إلى القاضي نفسه. الركن الخامس: تنفيذ أحكام الحدود الشرعية النصوص عليها في الكتاب والسنة. الركن السادس: حرية مراجعة الحكم القضائي للقاضي مع مجلسه. وللتذكير:عن ابن بريدة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم، فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار] (أبو داود:3573. والترمذي:1322)
ومن أسباب النهضة الحضارية ـ 3 ـ الإخاء المجتمعي: أو الأخوة والولاء العام.4 الإعداد الدفاعي: أو مؤسسات الحماية الوطنية.5 ـ الاكتفاء الذاتي: أو توفير الضروريات المعيشية.6 ـ التربية والتعليم: أو تجنيد المجتمع لإعداد الفرد الصالح.7 ـ العمارة والتنمية: أو بناء الاقتصاد على قواعد علمية.8 ـ التمدن الحضاري: أو بناء المدينة الاستراتيجية.9 ـ المؤسسات المجتمعية: أو الهيكلة المجتمعية للدولة.10 ـ السلم الهرمي الصحيح: أو توافق المناصب وتناسب الوظائف، وما يعرف في قولهم الرجل المناسب في المكان المناسب.