دراســــة

منهجية التربية والتكوين في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

د. توفيق جعمات/

 

لا يجادل أحد في أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين قد حازت قصب السبق في النهوض بمستوى التعليم الحر في الجزائر في العهد الاستعماري، وأنها كانت تجاهد في هذا الميدان وقوانين الاستعمار مسلطة في وجهها، وحرابه موجهة إلى نحرها، وعلماؤها كانوا وهم يقومون بهذا الواجب إنما يضعون أرواحهم على أكفهم حتى لكأنهم كانوا في مسيرتهم اللاحبة تلك كمن يجتاز حقول ألغام، ولكن هذا القول لا يعني أنهم انفردوا بهذا الواجب دون سواهم أو أنهم انطلقوا من فراغ، فهذا لا يقول به باحث منصف، فقد كانت هناك زوايا في شمال القطر وجنوبه، وكان هناك مدرسون علماء و فقهاء وموسوعيون، مثل المشايخ عبد القادر المجاوي وعبد الحميد بن سماية، ومحمد بن شنب، والمولود بن الموهوب، وحمدان الونيسي، ومحمد المكي الإبراهيمي وغيرهم ممن بقي رافعا لواء العلم وثابتا عليه بعد احتلال الجزائر وتردي التعليم بسبب تشريد العلماء وقتل بعضهم، وتدمير المؤسسات التعليمية، وإتلاف عشرات الآلاف من الكتب والاستيلاء على البقية الباقية، وهجرة كثير من العلماء إلى الأقطار المجاورة كتونس أو المغرب أو البعيدة كالحجاز أو الشام، فجمعية العلماء انطلقت من هذا الرصيد ونمته وطورته ومضت به شوطا بعيد معاكسة التيار بفضل منهجية رائدة سنحاول ذكر بعض أركانها في هذا المقال.

 

 

أركان المنهجية التربوية عند جمعية العلماء المسلمين
1- وحدة التصور حول قضية التعليم: انتهجت الجمعية تصورا يجمع بين العلم والعمل، وبين العلم والتربية وبين العلم والدعوة، وبين العلم والجهاد، وهذا يعني أن الجمعية قد حددت غاياتها التربوية ابتداءً، فلم تكن تهدف إلى تكوين علماء موسوعيين قد يكونون في نهاية المطاف من خدام الاستعمار، إن الغاية التي كانت ترنو إليها هي تكوين جيل واع يقوم بكل ما تتطلبه عمليةُ البناء الوطني التي كانت الجمعية منهمكة فيها، وفي هذا يقول الشيخ الإبراهيمي: “كانت الطريقة التي اتفقنا عليها أنا وابن باديس في اجتماعنا بالمدينة في تربية النشء هي: ألا نتوسّع له في العلم، وإنما نربيه على فكرة صحيحة ولو مع علم قليل، فتمّت لنا هذه التجربة في الجيش الذي أعددناه من تلامذتنا”.
فما معالم هذه الفكرة الصحيحة؟ إنها الاتفاق على مفهوم ومضمون عملية الإصلاح، والاتفاق على أهدافها ومراحلها ووسائلها، الاتفاق على مفهوم التجديد في الدين، الاتفاق على إعادة بعث مقومات الهوية لهذه الأمة التي كادت ترديها مخططات الاستعمار، الاتفاق الدقيق على تحديد العدو والصديق الاتفاق على الصبر في هذا الطريق الطويل المليئ بالعقبات والعقابيل…
2- الشمول في عملية التكوين: ونفصل هذا الشمول إلى شمول مكاني وشمول زماني وشمول في الاستهداف وشمول في الوسائل التربوية.
أ- الشمول المكاني: ونعني به شمول عملية التكوين بكل القطر الجزائري، بل يمتد التكوين إلى الجالية (في فرنسا وحدها يوجد 36 مركزا لجمعية العلماء يشرف عليها جميعا الشيخ الفضيل الورتلاني ومساعدوه)، فكانت مؤسسات الجمعية من شعب ومدارس ونواد، ومساجد حرة وجمعيات منتشرة في كل ربوع الوطن وفي الخارج تبشر بهذه الفكرة الصحيحة على المستوى الأفقي (الرأي العام) وتشتغل عموديا لانتشال عشرات الآلاف من أبناء هذا الوطن من براثن الأمية لتنتقي منهم جنودا يعملون في سبيله.
ب- الشمول الزماني: ونعني به أن هذه العملية التربوية التعليمية اتسمت بسمة الاستمرارية، فلم تتوقف منذ أن صاح ابن باديس في الأمة عام 1913 بنداء التعليم بل لازالت إلى توسع حتى سنة 1958 حيث حال الاستعمار بين الجمعية والأمة بحلها وتعطيل مدارسها ونواديها وصحفها و قتل رموزها وسجن شيوخها.
ج- شمول الاستهداف: ونقصد بذلك أن الفئات المستهدفة بهذا التكوين هم الأطفال ذكورا وإناثا، والمراهقون والمراهقات وكبار السن، فالأطفال يستوعبون في المدارس الابتدائية للتعليم الحر، والمراهقون والمراهقات في المعهد الباديسي وكبار السن يتلقون دروسا تتواءم ومستوياتهم واحتياجاتهم في اللغة والدين، في المساجد الحرة وفي نوادي جمعية العلماء المسلمين.
د- شمول الوسائل: تتعدد وسائل التربية والتكوين عند جمعية العلماء المسلمين لتغطية جوانب التكوين الأفقي والعمودي، ووسائل التكوين منها المباشرة وغير المباشرة:
– الوسائل المباشرة: وهي التي يتم فيها اللقاء مع المستهدف بالتكوين مباشرة، وهي المدارس والمساجد والنوادي.
* مدارس التربية والتعليم: في البداية كان عدد المدارس محدودا ففي عام 1933 كان عدد هذه المدارس ثلاث عشرة مدرسة سبع مدارس في عمالة قسنطينة وخمس في عمالة الجزائر وواحدة في عمالة وهران وهي على التفصيل مدارس:
مدرسة قسنطينة ومدرسة دلس ومدرسة ميلة ومدرسة جيجل ومدرسة تبسة ومدرسة سوطارنو ومدرستان بالعاصمة ومدرسة البليدة ومدرسة الأغواط ومدرسة بجاية ومدرسة معسكر، تم تلاحق العدد إلى أن وصل إلى حوالي 150 مدرسة في عهد الشيخ البشير الإبراهيمي منها 70 مدرسة بُنيت في عام واحد وهو عام 1943 أي في السنة التي أفرج فيها عنه، وتستوعب هذه المدارس حوالي 150 ألف تلميذ وتوظف 400 معلم.
* النوادي: النوادي من أهم وسائل التربية والتهذيب عند جمعية العلماء المسلمين والنوادي منتشرة في كل الولايات تقريبا وتؤدي دورها في التكوين العلمي ودروس محو الأمية، والتنشيط الاجتماعي والشبابي والفني الهادف.
* المساجد الحرة: ونعني بكونها حرة استقلاليتها ولو نسبيا عن هيمنة الاستعمار الذي كان يسعى إلى التحكم في الشعب من خلال التحكم في الأئمة الذين يعاملهم معاملة الموظفين، فالمساجد الحرة قد تتحول قاعات للدرس عند انعدام المدارس أو عدم كفايتها الأعداد الكثيرة الراغبة في العلم، مثلما كان مسجدا الجامع الأخضر وسيدي قموش هما مركز الحركة التعليمية للشيخ ابن باديس، وفي المساجد يقوم العلماء بدروس الوعظ والإرشاد ودروس العلم مثل الإمام ابن باديس الذي ختم الموطأ شرحا والقرآن تفسيرا في المسجدين الآنفي الذكر.
الوسائل غير المباشرة: ونقصد بها الصحف والمجلات والجمعيات بمختلف تخصصاتها، سواء أكانت جمعيات ثقافية أو خيرية تضامنية أو كشفية أو فنية، كانت هذه الجمعيات تضطلع بتأطير الشرائح المختلفة للشعب الجزائري وتسوقه نحو غاية مرسومة.
3- الثبات على مبدأ التربية والتكوين: لم تكن سبل التعليم ميسرة في وجوه المشايخ فلم يكن مسموحا لهم بالتدريس إلا برخصة من الاستعمار، ومن اشتغل بغير رخصة قد يغيب في غياهب السجون، خاصة بعد صدور قانون 8 مارس 1938 المشؤوم الذي حارب التعليم الحر ووضع أمامه العواثير، ولكن الجمعية ظلت صامدة ثابتة على خطة التعليم على الرغم مما أ صابها من بلاء وما سجن منها من مشايخ وما أغلق لها من مدارس ففي عام 1938 وحده تم سجن المشايخ علي الدردور وعبد العزيز الهاشمي في وادي سوف وسجن معه الشيخان علي بن سعد وعبد القادر الياجوري اللذان يدرسان بزاويته بحجة انعدام الرخصة، وأغلقت دار الحديث بتلمسان وأحيل مديرها الشيخ الإبراهيمي على المحاكمة، وأغلقت مدارس حرة بعمالتي قسنطينة ووهران … ولكن هذه العوائق لم تكن سوى مسانٍ شحذت عزيمة الجمعية ووضعتها في موقع الشهادة على الأمة الجزائرية.
4- تضحية المشايخ وتفانيهم من أجل إنجاح المشروع التربوي:
حبا الله الجمعية بنوعية خاصة من المشايخ صنعهم الله على عينه، من أهم ميزاتهم التفاني والاستعداد للتضحيةـ فكان المعلم منهم يرسل إلى ولاية غير ولايته في الغالب، فيحمل حقائبه ممتثلا غير متردد، وكان لا يكلف بالتدريس فقط بل يضاف إليه الوعظ والإرشاد في المواسم المختلفة في رمضان والمولد وغير ذلك من المناسبات الإسلامية، ويكلف بالدعاية لجمعية العلماء المسلمين في الإقليم المحدد له، ويأخذ راتبا إن سد الرمق فذلك فضل من الله ونعمة، وقدوتهم في ذلك أساتذتهم من مشايخ الجمعية الكبار، فابن باديس كما ورد في جريدة البصائر كان يلقي في عام 1938 خمسة عشر درسا يوميا للمستويات الثلاث للطلبة وللعامة في المسجد وكان لا يتقاضى على ذلك أجرا، وكذلك الإبراهيمي كما ذكر تلميذه الشيخ أحمد بري كان يلقي في تلمسان ثلاثة عشر درسا يوميا، وهذه الدروس هي : المفرد العَلَم في رسم القلم، شرح الموطأ، قطر الندى (النحو) التاريخ الإسلامي، مفردات لغوية، البيقونية (مصطلح الحديث)، مقتطفات من الشعر الفحل، أصول الفقه، تحفة ابن عاصم (1700 بيت في علم القضاء)، الجوهر المكنون، شرح المعلقات السبع، مبادئ أولية في النحو والصرف، وهذا الدرس الأخير خاص بالموظفين والتجار، والشيخ مبارك الميلي كان يدرس في مدرسة الأغواط وحده مواد: النحو والصرف والتوحيد والتفسير والفقه والمنطق والأدب ويدرس العامة خمس ليال في الأسبوع في مسجد سيدي عبد القادر الجيلالي التفسير والفقه والحديث والسيرة والأخلاق، وفي أيام العطل يخرج في رحلات دعوية إلى مدينتي الجلفة وآفلو، أي عزيمة هذه وأي نمط من الرجال هؤلاء، بمثل هذه الروح صنعوا الفارق وأحدثوا التميز، ولم تكن لهم من الوسائل إلا إيمانهم الراسخ واحتساب أعمالهم خدمة للدين والوطن، وهمم عالية ونفوس أبية آلت على نفسها أن تضيق أرض الجزائر على الاستعمار.
المراجع:
– ابن باديس حياته وآثاره، د/ عمار طالبي
– آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي
– أعداد جريدة البصائر لاسيما:
العدد97 الصادر في جانفي1938.
العدد 134 الصادر في أكتوبر 1938.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com