إسرائيل بين الجريمة وغياب العقاب!
أ. عبد الحميد عبدوس/
ما زلت إسرائيل تدعي حق احتكار المعاناة الإنسانية والمتاجرة بآلام اليهود التاريخية، ولذلك تحول «الهولوكوست» أو المحرقة التي تعرض لها يهود أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية على يد القوات النازية الألمانية بزعامة أدولف هتلر إلى أداة ابتزاز عالمية فرضتها إسرائيل كحقيقة راسخة ومسلمة تاريخية لا تقبل الشك ولا يجوز الجدل حولها، بل ان التشكيك أو مناقشة الهولوكوست هو من المحرمات في أوروبا وامريكا تحميه ترسانة من القوانين والروادع النفسية والإعلامية. وعلى سبيل المثال يذكر الباحث الأمريكي نورمان فينكلشتاين في كتابه (صناعة المحرقة) إلى كون استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة تشير إلى أن عدد الأمريكيين الذين يعرفون قدرا من المعلومات والتفاصيل حول ما يعرف بـ”الهولوكوست” أكثر من أولئك الذين يعلمون بشأن حدث إلقاء القنبلة الذرية الأمريكية على اليابان رغم أن إلقاء القنبلة يفترض أن يكون أوثق صلة بتاريخ وسياسة بلادهم من الهولوكوست. ربما كان هذا الاستثمار في مأساة الهولوكوست ،هو ما جعل الزعيم الصهيوني دافيد بن غوريون مؤسس منظمة «الهاغانا» العسكرية التي نشأ منها الجيش الإسرائيلي وكل المنظمات الإرهابية الصهيونية يقول: «لو أني أعرف أن في مقدوري إنقاذ جميع أولاد ألمانيا (اليهود)، بواسطة نقلهم إلى انكلترا، وإنقاذ نصفهم فقط بواسطة نقلهم إلى أرض إسرائيل، لما ترددت في اختيار الأمر الثاني». ولهذا اصبح الزعماء الصهاينة يوظفون الهولوكوست على أنه «كنز استراتيجي» لدولة إسرائيل. ولمجرد أن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس عقد خلال زيارته الأخيرة إلى ألمانيا مقارنة بين معاناة اليهود في الحرب العالمية الثانية والمعاناة التي مر بها الشعب الفلسطيني وما زال يمر بها تحت نير الاحتلال الإسرائيلي أثارت غضب المسؤولين الإسرائيليين والالمان على حد سواء.
لقد سئل الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال مؤتمر صحفي مشترك مع المستشار الألماني، أولاف شولتس عقد في برلين يوم الثلاثاء 16 أوت 2022 عما إذا كان الفلسطينيون ينوون الاعتذار عن هجوم ميونيخ في عام 1972فرد الرئيس عباس على السؤال بالقول: «إن إسرائيل ارتكبت «50 مجزرة و50 هولوكوست» في فلسطين منذ عام 1947 (بداية احتلال إسرائيل لفلسطين)».
وجاء الرد الإسرائيلي سريعا وغاضبا وتنافس المسؤولون الإسرائيليون السياسيون والعسكريون في شتم وانتقاد الرئيس الفلسطيني محمود عباس، فرئيس الحكومة الانتقالية الإسرائيلية يائير لابيد ادعى أن التاريخ لن يغفر أبدا لمحمود عباس مقولته، وقال: «اتهام محمود عباس لإسرائيل بارتكاب (50 محرقة) أثناء وقوفه على التراب الألماني ليس عارا أخلاقيا فحسب، بل كذبة وحشية» وأضاف: «أبو مازن، حصل على الدكتوراه في موسكو عن إنكار المحرقة، وقدم شكاوى إلى محكمة الجنايات في لاهاي، واتهم جنود الجيش الإسرائيلي بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية». أما وزير الدفاع الإسرائيلي، بني غانتس فقال من جهته: «كلام أبي مازن حقير وكاذب ومحاولة لتشويه التاريخ وإعادة كتابته»، فيما وصف رئيس مؤسسة «ياد فاشيم» لتخليد ذكرى ضحايا الهولوكوست، داني ديان، تصريحات محمود عباس بأنها أقوال تنطوي على «الخسة والحقارة فضلا عن أنها مثيرة للاشمئزاز».
ولم تبق ألمانيا بعيدة عن القضية، ولم تتأخر في استدعاء رئيس بعثة السلطة الفلسطينية في ألمانيا وإبلاغه إدانة المستشار الألماني الذي عبر عن أسفه لأنه ـ كما قال المتحدث باسم مجلس الوزراء الألماني ـ لم يتمكن من التدخل خلال المؤتمر والرد على تصريح عباس بشكل مباشر»، ولكن بعد الغضب الإسرائيلي حرص المستشار الالماني أولاف شولتس على التعبير شخصيا عن استيائه في منشور على تويتر قائلا: «بالنسبة لنا نحن الألمان على وجه الخصوص، فإن أي محاولة لإضفاء الطابع النسبي على تفرد المحرقة أمر غير محتمل وغير مقبول.. أنا مستاء من هذه التصريحات المشينة التي أدلى بها الرئيس الفلسطيني محمود عباس». هذا التنمر السياسي والإعلامي جعل الرئيس الفلسطيني محمود عباس يصدر بيانا لتوضيح أقواله في المؤتمر الصحافي المشترك قائلا أنه «يعيد التأكيد على أن الهولوكوست هي أبشع الجرائم التي حدثت في تاريخ البشرية الحديث… وأن المقصود بالجرائم التي تحدث عنها هي المجازر التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني منذ النكبة على أيدي القوات الإسرائيلية، وهي جرائم لم تتوقف حتى يومنا هذا».
وكأن المعاناة الفلسطينية ومأساة الشعب الفلسطيني المستمرة على مدى عقود من الزمن تحت مسامع وانظار العالم لا تستحق تعاطفا مع الضحية أو إدانة ومساءلة المعتدي، رفض المستشار الألماني شولتس يوم الثلاثاء (16 أوت 2022) الاستجابة لطلب الرئيس الفلسطيني محمود عباس الاعتراف بفلسطين كدولة مستقلة ،كما رفض استخدام تعبير «الفصل العنصري» لتوصيف ما يحدث في فلسطين.
وفي الوقت الذي كان فيه المستشار الالماني يرفض توصيف ما يحدث في فلسطين بأنه فصل عنصري و يندد بمقارنة محمود عباس معاناة الشعب الفلسطيني على يد المحتلين الإسرائيليين بمعانة الشعب اليهودي على يد النازيين الألمان في الحرب العالمية الثانية، كشفت وسائل إعلام إسرائيلية، اعتراف مسؤولين أمنيين إسرائيليين بمسؤولية الجيش الإسرائيلي عن مقتل 5 أطفال فلسطينيين في منطقة جباليا بقطاع غزة، في آخر أيام الهجوم الإسرائيلي الأخير على القطاع. وكان الجيش الإسرائيلي قد زعم سابقا أن الاطفال الخمسة الفلسطينيين في جباليا قتلوا بقذيفة صاروخية فاشلة أطلقتها حركة الجهاد الإسلامي ووصل الأمر بالمعتدين الإسرائيليين إلى نشر فيديو مزور لعملية قتل الأطفال، ظهر فيه المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي معلقا على الفيديو المفبرك بقوله: «شاهدوا الصاروخ الذي أطلقه مخربو الجهاد الإسلامي مساء (السبت) وسقط على رؤوس سكان جباليا وسبب مجزرة جباليا المفجعة». ولم يكن هذا الفيديو المفبرك عن مقتل الأطفال الفلسطينيين في منطقة جباليا خلال الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة بين الخامس والسابع أوت 2022 هو أول محاولة إسرائيلية لقلب الحقائق وتزوير الوقائع للتهرب من مسؤولية جرائمهم وإلقائها على عاتق «الإرهاب الفلسطيني»، ففي الحادي عشر من ماي 2022 ، وبعد لحظات من مقتل الصحفية الفلسطينية شرين أبو عاقلة عجلت إسرائيل بنشر فيديو ظهر فيه صراخ أحد المسلحين الفلسطينيين وهو يقول: «لقد أصبنا الجندي»، للإيحاء بأن مسلحين فلسطينيين هم المتسببين في مقتل الصحافية الفلسطينية شرين أبو عاقلة ، وبعد انكشاف زيف الرواية الإسرائيلية عادت السلطات الإسرائيلية لتسويق رواية جديدة تقول إنه من الممكن أن يكون أحد جنودها هو السبب عن طريق الخطأ في استشهاد الصحفية لفلسطينية.
وفي يوم 4 جويليه 2022 وبعد مرور عدة أسابيع على مقتل شرين أبو عاقلة أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية التي شاركت في التحقيق في جريمة مقتل الصحفية الفلسطينية ذات الجنسية الامريكية «أن فحصا جنائيا مفصلا للرصاصة التي قتلت الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة لم يستطع تحديد الجهة التي كانت وراء الجريمة».
وهكذا يتأكد بما لا يدع مجالا للشك أن إفلات العدوان الإسرائيلي من المساءلة والعقاب وتغطية رعاة الدولة الصهيونية من الأوروبيين والأمريكيين على جرائم إسرائيل تبقي حجة القوة فوق قوة الحجة.