شهرة الرسيوني…
يكتبه د. محمّد قماري
لا أبالغ إذا حدثتكم عن مشقة الالتزام بتقديم مادة إعلاميّة، سيان في ذلك الوسائط المكتوبة أو المسموعة أو التلفزة، فكل ما تقدمه يبتلعه الإعلام، ويطالبك بالمزيد، كمثل ذلك الرجل من أهل الشمال وقد زار مدينة صحراوية رملية، دخل الرجل غرفة نومه مساء، وسمع أصوات ماء المطر، كأنها الدلاء تنزل من السماء، فلما استيقظ في الصباح، لبس معطفه وتسلح بحذاء عال خشية الأوحال، فما وجد وحلاً ولا بركًا، فقال: لا مقام لي بأرض لا تقر فيها خيرات السماء!
طيلة الأسبوع وأنت تقلب صفحات دماغك، عساك تجد ما تقدمه لقرائك أو مستمعيك أو مشاهديك، والوقت كالسيف فإخلاف الموعد في الإعلام جريمة لا تغتفر، وقد تورثك عدوات مع القائمين على تلك الصحيفة أو القناة، وأحيانا تفتح أمامك أكثر من نافذة، وتحتار فيما تقدم وما تؤخر، كما وقع ما خراش الخائب في صيده:
تكاثرتِ الظباءُ على خَراشٍ *** فما يَدْري خراشُ مَا يَصيدُ
وقد تمردت على رئيس تحرير (البصائر) لمدة أسبوعين، وهممت بالعود إلى الكتابة، فإذا بالصيد تكاثر أمام ناظري، وما هو بصيد مغانم، فكله لا يسمن ولا يغني من جوع، هو صيد واقع بائس تعيشه أمتنا، ويقتضي منا أن نبرأ منه، ونسوق إلى ساحتنا صيدًا نافعًا، يشرح الأنفس ويبهج الأرواح…
ولابد مما ليس منه بدُ، وقد يُؤلف الشيء الذي ليس بالحَسن، فاخترت الحديث عن (شهرة) الريسوني، وقديمًا كان أفاضل الناس يستعيذون من الشُّهْرَةُ، لأن معناها كما في (لسان العرب): الفضيحة، وهي ظهور الشيء في شُنْعَة حتى يَشْهَره الناس، وانزاحت دلالة الكلمة فغدت معنى لما كان يطلق عليه (علمًا) وتجمع على أعلام…
والدكتور أحمد الريسوني الذي كان طالبا في الحقوق، استطاع أن يلفت الأنظار إليه بحديثه عن فقه (المقاصد)، وهو علمٌ استوى على سوقه في الأندلس، وأصله عالم قرطبة الكبير الإمام الشاطبي، وظل كبار المجتهدين فيه من أهل الغرب الإسلامي، ومنهم الإمام محمد الطاهر بن عاشور الذي زاد على الشاطبي في مقاصد الشريعة (مقصد الحرية)، بمعنى أن الشريعة الإسلاميّة جاءت لحفظ وتنميّة وصون حرية البشر…
واعتقد أن الفقه المقاصدي هو الذي أوحى لمنتسكيو (Charles de Montesquieu)، مفكر علم الاجتماع السياسي الفرنسي، بتأليف كتابه المعروف (روح القوانين) في أواخر القرن الثامن عشر، لأنَّ فقه المقاصد نشأ في الأندلس حيث كانت قصور الحكام منفتحة على اجتهادات العلماء، بل منهم من تولى الوزارة كابن حزم، ولأجل ذلك لا تخلو كتب فقهائها من التنظير لعلم الاجتماع السياسي…
ولعل بعض كتابات الدكتور عبد المجيد النجار التونسي، والطيب برغوث الجزائري، وأحمد الريسوني المغربي هي محاولات لاستلهام تلك المدرسة المقاصدية، أو هكذا بدا لي قبل سنوات!
وكانت كتابات الريسوني أقرب للتعريفات بهذا العلم، وتقريبه ممن لا يمتلك أدوات الاطلاع عليه في أمهات مصادره، ولم تأت شهرة الريسوني من هذا الباب بل جاءته بعد أن أصبح رئيسًا للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وما يتبع مثل تلك المواقع من ظهور إعلامي، ولفظة العلماء لها ثقلها وظلالها وضلالها!
والإعلام المرئي كمصنع المتفجرات، كل خطأ فيه قد يودي بحياة صاحبه:
قد يموت الفتى من عثرةٍ من لسانه *** وليس يموتُ الفتى من عثرة الرجل
فكيف إذا كان المتحدث فيما لم يحط به خُبرًا، التحدث في السياسة حيث تضيق المساحات، ويتسع التأويل، وتحضر الاشارة والمناورة، وكلها أبعد ما تكون عن قاموس عالم الدين، حيث وضوح المعنى، وجلاء المفاهيم والاستغناء عن المجاز، فـ(الأصل في الكلام الحقيقة ولا يصرف إلى المجاز إلا بقرينة)…
ما هي القرينة التي سوّغت للريسوني استعمال مصطلحات (الجهاد) و(الزحف)؟ وما القرينة الشرعيّة التي سولت له نفسه أن يلغي وجود (قُطْرٍ) من الأقطار من على الخريطة؟ بل ما الداعي أصلاً للحديث في هذه القضيّة الشائكة من قبل رجل على رأس هيئة يفترض أنها تدعو وتعزز روح الأخوة الإسلامية بين شعوب وأقطار المسلمين؟
لكن ربك أبى إلا أن يلبس الرسيوني لباس الشهرة، وأن تزول من حوله تلك العدسات المكبرة، فبدا صغيرا معزولاً منبوذًا، لأن فلتات اللّسان تشي بمكنونات الجنان، وتجربة كثير من الإسلاميين في ساحة العمل السياسي خائبة، لأن منطق المغانم واستعجال الظفر بالمواقع طغا على منطق المعلن من المبادئ، وضاعت تلك الحلقة التي تربط بين دعاوى (تمكين المبادئ) و(فن الممكن)، ولله الأمر من قبل ومن بعد !