كلمة حق

أيام بتونس 2/1

أ د. عمار طالبي/

 

في يوم الاثنين شددت الرحال إلى جارتنا تونس الشقيقة، التي قال فيها الشيخ عبد الحميد بن باديس إن حبه لها لا يعادله إلا حبه لتلمسان، ولعله اختار تلمسان من الجزائر دون قسنطينة موطن نشأته وأسرته لما رأى فيها من آثار شاخصة، ومعالم تاريخية شاهدة على ما كان فيها من علماء وفقهاء وشعراء وما أنبتت من أجيال هؤلاء العلماء.
وأنا كانت دراستي في هذه المدينة المباركة وفي جامع الزيتونة المعمور، في أثناء مشيخة الشيخ الأكبر محمد الطاهر بن عاشور علمها الأعظم وسيد علماء التفسير وحكمة الشريعة ومقاصدها، ونجله المتميز في علمه وسعة آفاقه الذي لا ينافس حين يحاضر متدفقا كنهر تنساب مياهه في شلالات صافية ومن إليهما من علماء الزيتونة الآخرين كالشيخ مختار بن محمد رئيس تحرير مجلة الزيتونة الزاهرة، والشيخ البشير النيفر والشيخ الشاذلي النيفر والشيخ العربي الماجري والشيخ التليلي والشيخ محمد النخلي ومعاوية التميمي، والشاعر الشابي، وخزنر دار، ومحمد المدني، شقيق الشيخ أحمد التوفيق المدني.
انطلقت من مطار الجزائر في الساعة الخامسة بعد الظهر وكان مقعد جلوسي رقم 11 س. وما لبثت الطائرة أن هبطت في مطار تونس بعد ساعة من الطيران، وجدنا المطار مكتظا بالمسافرين الذين وصلوا، وطال الزمان بنا سيرا حلزونيا للوصول إلى شرطة مراقبة الجوازات، وصلت بمشقة إلى السيد الشرطي ففوجئت بطلب ملء ورقة معلومات ولم أكن تسلمت هذه البطاقة لملئها، واندهشت بهذا مع أن المطارات التي نزلت بها في عدة رحلات عالمية لم أطالب بمثل هذه البطاقات لأن الرقمية سادت، ولكن شرطة مطار تونس ما يزال متخلفا في هذا المجال وعبرت للشرطي عن تعجبي هذا، بعد وقت طويل قضيته أنا ومن معي في الصفوف الحلزونية وكان السيد الشرطي يسألني لماذا جئت إلى تونس وأين تنزل مع أني كتبت ذلك في البطاقة ولما ذهبنا إلى موقع الحقائب لم نر معلومات مكتوبة على موقع الحقائب إلا بعد البحث، وقد وقفت أنا مع أفراد من الجزائريين أمام موقع فتبين لنا أننا أخطأنا فتحولنا إلى الموقع الذي يأتي بحقائب للطائرة الجزائرية، والحمد لله أخذت حقيبتي وخرجت فوجدت ابن أختي شكري رحماني، مع ابنه محمد علي واتجهنا أولا إلى حي التحرير شارع الشيخ أحمد بن خوجة للسلام على أفراد عائلتنا مثل الأستاذ نصر الدين رحماني وإخواته، وقلت للشرطي أني أنزل في فندق إفريقيا ولكن ألح علي الأستاذ نصر الدين أن أقيم في شقته وهو أستاذ الرياضيات في إحدى ثانويات باريس وجاء لتونس لقضاء عطلة الصيف، وهو رجل كريم ولطيف مع إخوانه من الذكور والإناث بارك الله فيهم.
وفي يوم الجمعة 15/7/2022 قصدت مع شكري وزوجته وأبنائه إلى جامع الزيتونة لأداء صلاة الجمعة وكان إمام هذا الجامع العتيق الشيخ الصديق الأستاذ هشام بن محمود، طلبت مقابلته فأذن بذلك فدخلت مقصورة الجامع فاستقبلني استقبالا حارا بلطفه ودماثة خلقه حفظه الله، وهو في هيئته ذكرني بعلماء الزتونة بعمامته وجبته، وحسن هندامه الرائع فوجدت لديه شخصين من تركيا في زيارة له ولما أذن لصلاة العصر خرج الشيخ في هيئة جديدة هيئة الإمام في تقليد عليه أئمة الجامع مع برنوس ناصع البياض وقطعة من قماش لا أدري ما اسمها على كتفه وجاء إلى المحراب مع شخصين يمهد له الطريق إلى المحراب وهذا تقليد زيتوني قديم وما أظرفه وما أجمله من هيئة تليق بالعلماء وبالأئمة وكنت اقترحت على عدة وزراء للأوقاف في الجزائر أن يجددوا لباسا يعرف به الأئمة في المساجد ويكون موحدا ولكن ما تزال الفوضى تسود لباس أئمة الجزائر ويكون أحيانا غير لائق بالإمام، باعتباره قدوة في لباسه اللائق به، ولكن لا حياة لمن تنادي وعندما خرجنا من جامع الزيتونة تجولنا في تلك الأسواق المحيطة، بالجامع وهي أسواق قديمة تقليدية مررنا بنهج سيدي ابن زياد وهو الشيخ علي بن زياد الذي حمل كتاب الموطأ للإمام مالك إلى تونس وضريحه ملاصق لقصر الحكومة بالقصبة، يقابله مستشفى عزيزة عثمانة الذي أوقفته هذه السيدة التركية لعلاج المرضى.
ومررنا كذلك أمام جامع بن عروس الذي كان مقر طلبة السنة الرابعة كما كان الجامع الحفصي مقر السنة الثانية واليوسفي مقر السنة الثالثة وجامع الزيتونة مقر السنتين الخامسة والسادسة ولما مررنا بجامع اليوسفي تذكرت تلك المظاهرة التي قام بها طلبة الزيتونة وأنا من بينهم مطالبين بناء جامعة عصرية بدل الدراسة في المساجد وذلك في سنة 1953، وقتل طالب في هذه المظاهرة وبعد ذلك شرعت الحكومة في ببناء جامعة 9 أفريل، ثم قضى الرئيس بورقيبة على جامع الزيتونة ولم يبق إلا كلية سميت كلية الشريعة وأصول الدين، وصرح لجريدة لوموند بأنه يفتخر في حياته بشيء وهو القضاء على الزيتونة وطمست فروع الزيتونة الكثيرة في المدن التونسية، وكان عدد طلبتها بلغ خمسة عشر ألف طالبا.
ومن المنظمات الطلابية منظمة صوت الطالب وكان رئيسها الأستاذ بدوي عرف بالخطابة المؤثرة وهو ذو فصاحة وبيان أخاذ، واضطر إلى اللجوء إلى الجزائر.
ومن الأحداث ما وقع من نزاع بين صالح بن يوسف الأمين العام للحزب الدستوري التونسي فكان ابن يوسف عروبيا إسلاميا، إذ كان والده من علماء الزيتونة وكان أخوه أستاذا درسنا عليه في الزيتونة، وكان الزيتونيون من أنصار صالح بن يوسف، وقد زار تونس أثناء هذا النزاع الشيخ الياقوتي الأزهري وكان وزيرا للأوقاف في حكومة جمال عبد الناصر وحضرت خطبته في داخل جامع الزيتونة، فكان له صوت جهوري وفصاحة وكانت عاقبة نضال صالح بن يوسف الاغتيال في فرنك فورت بألمانيا، وكان النزاع في الواقع بين الاتجاه الإسلامي العروبي وبين العلمانية التي يمثلها بورقيبة.
من حي التحرير إلى حي النصر إقامة دالاس جاءتني ابنتي منى وأخذتني بسيارتها إلى هذا الحي وإلى إقامتها في شقة تطل على مساحة خضراء مشجرة، فضاؤها واسع ونسيمها عليل وصلت فاستقبلني ابنها أنس، وابنتها نور وهما لطيفان في سن الدراسة المتوسطة، وكان تاريخ وصولي إلى هذه الإقامة يوم الثلاثاء 22 جويلية 2022 صباحا.
وفي يوم 24 من هذا الشهر استضافني ابن أختي فأخذنا ابن اختي نصر الدين مع أخيه كمال بسيارة نصر الدين عند نائلة وهي طبيبة نساء بمنزلها بالحمامات التي تبعد عن تونس بحوالي ستين كلم فوصلنا صباحا، فوجدناها هي وزوجها نبيل وهو طبيب القلب وأمراض الدم مع ابنه اسكندر وابنته أُنس، أما ابنه باديس فقد كان غائبا في باريس.
يتبع

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com