رواية «سيدي جليس» لياسين نوار: المتخيل والحقيقي في ذاكرة قسنطينة (محاولة اغتيال ابن باديس)
د.وليد بوعديلة*/
اختار الروائي الجزائري ياسين نوار العودة بالقارئ لقصة محاولة اغتيال الشيخ الإمام عبد الحميد ابن باديس، في رواية سيدي جليس، الصادرة مؤخرا عن منشورات نوميديا، 2022، وفيها يمتزج المتخيل بالحقيقة.
1- تاريخ قصة محاولة الفتك:
والحادثة الواقعية الحقيقية التي اعتمد عليها الروائي لبناء معمار روايته تعود إلى 14 ديسمبر من سنة 1926 بقسنطينة، وهي موجودة في كثير من الكتب التاريخية التي تناولت حياة رائد الحركة الإصلاحية الجزائرية عبد الحميد ابن باديس، ومن الكتب نذكر الكتاب الهام للأستاذ أحمد حماني «صراع بين السنة والبدعة أو القصة الكاملة للسطو بالإمام الرئيس عبد الحميد بن باديس»، وجاءت تفاصيل الجريمة في عدد 76، من جريدة الشهاب، 21 ديسمبر 1926، بعنوان «بيان فاجعة الفتك بالاستاذ». والمقال منشور في هذا الكتاب.
وملخص الحادثة (في الحقيقة قبل أن يضيف الروائي جماليات المتخيل) أن الإمام تعرض لمحاولة الاغتيال من رجل قادم من مستغانم، ينتمي لطريقة ابن عليوة الصوفي، وحاول قتله عندما انصرف الشيخ من المسجد نحو المنزل، وتدافع الإمام والمجرم في الدرج، وضربه المجرم بالدبوس، ففشل الشيخ، لكن استطاع الإمام أن يصعد به إلى الطريق العام واستغاث، فهرب الجاني نحو دهليز في الدار التي بها مسكن الإمام .. وقُبض عليه، ومَنع الإمام ضربه، وقد وجدوا عنده تذكرة سفر بالقطار للعاصمة وسبحة عليوية، وتم تحويله إلى مركز الشرطة.
2- التوظيف الفني للتاريخ:
واعتمد الروائي تقنيات كتابات تيار الوعي لبناء عوالم روايته، فانطلق من التاريخ وتحاور معه، وأضاف له الأحداث والشخصيات، وكتب لنا التفاعل الفني بين التاريخ والخيال، وطغى حضور السارد الذي يروي لنا هواجسه وعواطفه، وهو المجرم الذي أراد الفتك بالإمام، أما عنوان الرواية فهو يحيل لحي من الأحياء القديمة في وسط قسنطينة.
لقد منح الكاتبُ المجرم سلطة الحكي من البداية للنهاية، فتحركت الأحداث والأزمنة من وجهة نظره، بالمحادثة الداخلية غير المتطقية، وبالتداعي الحر والاسترجاع والحلم، فقرأنا النظرة الذاتية الباطنية لقصة الفتك الفاشلة..
ولم يقدم الروائي اسما لبطله، فكان نكرة، لكنه حاضر بعواطفه وأفعاله، وعبره يصف الكاتب السجن وعوالمه، والاختلاف بين فكر وأخلاق رجال الحركة الإصلاحية في مقابل أهل الطرق الباطلة، كما يمكن أن نجد علامات كثيرة لقسنطينة وشوارعها وتلاميذ الشيخ ابن باديس، وللمساجد والارتباط الكبير لأهل المدينة بشيخهم ودروسه..
كما نجد الجوانب الأنتروبولوجية الدينية للطرق الصوفية وممارساتها وقيمها ونظرتها للدين، وكيف يرتبط المريد بالقطب ارتباطا روحيا خرافيا بدعيا زائفا، نتيجة الجهل والتفاهة المعرفية، كما تحيل الرواية لتعاون الطرق والزوايا مع الاستعمار والتخطيط المشترك لقتل شيخ الإصلاح ابن باديس.
لقد غير السارد وبدل في الوقائع، وهنا على القارئ أن يبحث عن البعد الجمالي وكيفية بناء النص، دون الارتباط الحرفي بالتاريخ، لأنه يقرأ التاريخ في الفن وليس التاريخ في الحقيقة، لذلك رحلت الرواية في أحداث مختلفة متخيلة، ومنها محطات انتقال المجرم بين السجون وعودته لمقر الطريقة، بعد سنوات ليقضي على قطبها وشيخها الصوفي الذي طلب منه قتل ابن باديس، وهذا بعد أن عرف خرافات وأخطاء الطريقة الصوفية، التي تتحالف مع الاستعمار الفرنسي وتدافع عن الإدارة الاستعمارية وممارساتها الظالمة.
أخيرا…
هي رواية جميلة، تحتاج لوقفات أخرى برؤى مختلفة، لأنها مشوقة، وتعتمد على لحظات فنية وتاريخية، تتنوع فيها المحطات والرؤى، وتتحرك في دواخل الشخصيات ومشاعرهم، وتنقل القارئ الملامح التاريخية والثقافية والدينية، فلا يمكن فهمها إلا بالعودة لكتب التاريخ والحركات الدينية في الجزائر، إلى جانب معرفة خصائص الكتابة التجريبية في السرد.
*جامعة سكيكدة