صفحات من ذكرياتي كطالب وأستاذ في معهد بن باديس بقسنطينة
باريس/سعدي بزيان/
في البدء كانت جمعية العلماء
لا تعرف قريتنا غوفي غسيرة أي نشاط حزبي سواء ما يتعلق بحزب الشعب أو حزب البيان أو الحزب الشيوعي فالأحزاب الثلاثة غائبة عن الحضور في قريتنا فكانت جمعية العلماء وحدها حاضرة بقوة في قريتنا وكانت جريدة البصائر هي الجريدة الوحيدة المتداولة وسط الجماهير وهناك حوالي اربع شخصيات تنشط في الجمعية الدينية للقرية هي وحدها المشتركة في الجريدة ولعل انفراد جمعية العلماء بالساحة يعود إلى اثنين من طلبة بن باديس وهما الشيخان سي عمار بن سي الجودي وسي أحمد ابن السعدي الميموني وإليه في الحقيقة يرجع الفضل في نشر أفكار الإصلاح في القرية وإليه يعود الفضل كذلك في إرسالي ضمن بعثة طلابية إلى معهد بن باديس بقسنطينة في الدفعة الثانية من طلبة القرية، وكنا 3 طلبة سبق لنا وأن درسنا بعض المبادئ الأولية في الفقه والنحو وعلم القراءات عند الشيخ سي عمار بن سي الجودي المعروف بتبحره في علم القراءات ويذكر الذين درسوا معه على رائد النهضة الجزائرية الشيخ ابن باديس إن بن باديس طالما قدم الشيخ سي عمار في المناسبات لقراءة ما تيسر من القرآن الكريم في الحفلات والمناسبات الدينية لما يتمتع به من صوت والتمكن في علم القراءات، وقد سبق لي وأن درست عليه فن التجويد والقراءات، وأذكر أنني قبل أن يقع قبولي كطالب في معهد بن باديس، جرى امتحاني أمام الشيخ سي بلقاسم الميموني الغسيري الذي لم يدرس على بن باديس بل تخرج من الزيتونة سألني على من قرأت القرآن وعلى من درست علوم القراءات فقلت له على الشيخ سي عمار بن سي الجودي في قرية غوفي فقال عنه «إنه رائد هذا العلم» ويعرفه جيدا وكلاهما من غسيرة.
التحقت بمعهد بن باديس في شهر أكتوبر 1950 في شارع ابن الفقون رقم 5 وسكنت في الأيام الأولى داخل المعهد وفي بيت القبة مع ثلة من طلبة جاؤوا من مختلف جهات الوطن تحدوهم عزيمة وإصرار على طلب العلم والمعرفة، فبقدر ما غمرني السرور باني أصبحت طالبا في معهد يضم حوالي 800 طالب والدراسة على أساتذة طالما عرفت أسماؤهم عن طريق جريدة البصائر ها انا التقي بهم وجها لوجه في أقسام دراسية مختلفة ، بقدر ما تملكني الخوف من أنني وحسب ظروفي المادية لا أستطيع ان أواصل الدراسة وبفضل دعم زملائي من نفس القرية الذين سبقوني إلى المعهد وتشجيعهم واصلت الدراسة بإرادة صلبة وعزيمة قوية.
أساتذتي في المعهد رحمهم الله جميعا
درست على جميع أساتذة المعهد: الشيوخ حماني أحمد، حسين بوروح، بن ذياب عبد اللطيف سلطاني، نعيم النهيمي، عبد المجيد حيرش، شيبان الشهيدان محمد العدوي والزاهر والياجوري اتممت الدراسة بسلام وعدت إلى قريتي غوفي وشعرت بأنني أصبحت شخصا آخر وكان أهل قريتي هم الآخرين ينظرون إلي نظرة احترام كطالب درس في قسنطينة في معهد بن باديس وهذا ليس بالأمر الهين ولا بالسهل وحل العام الدراسي الثاني وكنت في ظروف مادية أحسن إلى حد ما، وأتممت العام الدراسي بنجاح وبمعدل حسن، واكتسبت خلال ذلك صداقات عديدة من عدة طلبة البعض منهم أصبح صديقا حميما.
مفاجأة غير سارة نسفت كل طموحاتي
في إحدى الأمسيات وأنا أقضي عطلتي السنوية في قريتي بغوفي وإذا باستدعاءي للخدمة العسكرية الإجبارية فعم الحزن الأهل وخاصة الوالدة التي ليس لها سواي، ومن جانبي كان الحزن اكبر وأشد واستسلمت للقضاء والقدر والتحقت بالخدمة العسكرية الإجبارية وتم تعييني في قسنطينة وبالضبط في سطح المنصورة حيث قضيت شهرين في التدريب ثم نقلي إلى الخروب 16 كيلومتر على قسنطينة ولازلت أذكر انه عندما تأتي فترة الحراسة كنت أرى قسنطينة من مقر الحراس فأقول لنفسي هل اعود يوما ما للدراسة في المعهد حيث أصدقائي وبعد حوالي 7أشهر في الخروب كان نصيبي ألمانيا الاتحادية وبالضبط مدينة كوبلانز حيث ترابط القوات الفرنسية في المانيا التي كانت يومئذ شبه محتلة من طرف الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وفرنسا، وقضيت حوالي 10 أشهر بأيامها ولياليها وتم إطلاق سراحي في مارس 1954 وكان وضعي المادي مريحا والتحقت فورا بمعهد بن باديس لمواصلة دراستي واندلعت ثورة نوفمبر 1954 وانا طالب في معهد بن باديس وعشت فرار بن بولعيد من سجن قسنطينة الكدية واغتيال حوحو ومجموعة من أعيان قسنطينة وتسارعت الأحداث وامتدت إلى معهد بن باديس والتحق العشرات من زملاءي بالثورة وغادرت المعهد في حزن شديد وحاولت الحصول على رخصة للالتحاق بالزيتونة ولم أوفق فالفرنسيون كانوا قد شدوا الخناق على الجزائريين حيث حولوا الجزائر إلى سجن كبير للجزائريين فالحل هو السفر إلى فرنسا للعمل اولا ثم التفكير في الدخول إلى تونس للالتحاق بجامع الزيتونة وكان الأمر كذلك ودون الذهاب في التفاصيل وها هي الجزائر تستقل وها أنا عائد إلى الوطن وكانت قسنطينة محط الرحال، وهي المدينة التي لا تغادر ذاكرتي أبدا، إنها لا تزال عندي أم الحواضر وقد لقيت استقبالا حسنا من طرف زملاء كنا سويا في معهد بن باديس وأصبحوا بعد الاستقلال أساتذة ومما شجعني على البقاء في قسنطينة الزميلان الأستاذ أحمد يكن خريج جامعة القاهرة، وبلقاسم بومعزة رفيقي سابقا في معهد بن باديس أيام الدراسة، وقد اقترح علي الصديق أحمد يكن البقاء والعمل في قسنطينة كأستاذ واتصلت بمدير الأكاديمية في قسنطينة الأستاذ والشاعر عبد القادر بن محمد الذي رحب بي وعينني مباشرة كأستاذ في معهد بن باديس للعام الدراسي 1963-1964 وقضيت سنة كاملة في جو مريح مع مدير المعهد الشيخ سي عبد الحميد بحري خريج الزيتونة ومن اهل الإطارات الجزائري التي عملت معها في الجزائر المستقلة، كما ان تلامذتي كانوا نموذجا في العمل والأخلاق ولا تزال علاقتي مع العديد منهم رغم مرور 58 سنة كاملة، بل أن احد تلامذتي أسس أحد أبنائه دار للنشر، فنشر لي كتاب «شاهد على ميلاد الحركة الإصلاحية لجمعية العلماء في الأوراس». مع مقدمة للوالد د. سعيد بحري وهكذا الدنيا لقاء وافتراق، ساعة تحلو واخرى لا تطاق، وشاءت الدنيا ان أعيش وأشاهد رحيل آخر مشايخ معهد بن باديس الشيخ احمد زوزو والذي رثاه د. ناصر الدين سعيدوني بمقال قيم في جريدة البصائر وخلال مدة ليس طويلة رحل آخر مشايخ جمعية العلماء وهو المرحوم سليمان بشتون الذي اطال الله عمره وحسنت أعماله مخلفا وراءه عدة كتب تتمحور كلها حول الإصلاح والمصلحين، وجمعية العلماء وقبيل وفاته قامت احدى الجمعيات في تيزي وزو بتكريمه تقديرا لما أسداه للولاية من أعمال، وكنت حاضرا في حفل التكريم في منزله رحمه الله وكانت آخر زيارة له ورحل وانا في باريس.
إن ذكرياتي عن معهد بن باديس بقسنطينة كطالب وأستاذ أعتبرها اعز الذكريات وكانت آخر زيارة لي لمعهد بن باديس سنة 2005 وذلك بمناسبة حضوري ومشاركتي في ملتقى ثقافي بجامعة الأمير عبد القادر وتأثرت جدا لما آل إليه المعهد وما يحيط به وكأن هذا الصرح لم يكن متناسين في ذلك مئات الإطارات التي تخرجت من هذا المعهد ومساهمة هؤلاء في بناء الجزائر المستقلة.
مساهمة بن باديس بعشرات الإطارات في الجزائر المستقلة وزراء سفراء وإطارات في الجيش ومن هؤلاء الجنرال هجرس رئيس المحافظة السياسية للجيش الوطني الشعبي الجنرال سي العربي حسن سفير في العراق وضابط سام في الجزائر، د. غلام الله وزير ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى والعقيد محمد الصالح يحياوي مدير أكاديمية شرسال، فإطار سام في الحزب، شريف سيبان سفير ومؤسس مجلة آفاق عربية في باريس، العقيد محمد شعباني ضابط سام ومسؤول الناحية العسكرية في الصحراء، السعيد عبادو وزير المجاهدين، والأمين العام للأمانة الوطنية للمجاهدين محمد شريف عباس الأمين الوطني للمجاهدين ووزير المجاهدين عثمان سعدي سفير ورئيس لجنة الدفاع عن اللغة العربية وكاتب وغيرهم وغيرهم ويكفي معهد بن باديس ورجال جمعية العلماء ما ذكرت وما أذكر.