د. بدران بن الحسن *
إن المتابع لجهود أمتنا في الخروج من وضعها الحالي الذي طال أمده، وتحقيق الحرية والنهضة الحضارية والكرامة لشعوبها، هذا الجهد جهد متطاول ومستمر، بالرغم من الإخفاقات والصعاب التي تواجه القائمين على ذلك؛ أفرادا أو جماعات أو مؤسسات. ولعل من العوائق التي تحول دون تحقيق أمتنا بمجتمعاتها ودولها ما تصبو إليه هو السلط المتحكمة في شعوبها، والأنظمة الاستبدادية الجاثمة على صدرها، والدول القائمة على غير مبدئها ولا الساعية لتحقيق مقاصدها.
ولهذا يمكن القول إن من عوائق نهضة امتنا؛ وقوف السلطة ضد الأمة؛ في المبدأ والمشروع والغايات وفي الوسائل وفي الأفراد.
ولعل هذا ما دفع برهان غليون يطلق صرخته في وقت مبكر قبل نهاية القرن العشرين، يحذر فيها من ان محنة الأمة تكمن في مواجهة الدولة (السلطة) للأمة. ففي كتابه «المحنة العربية: الدولة ضد الأمّة» سعى برهان غليون إلى فهم الآليات والسياقات التاريخية والسياسات التي حوّلت الدولة الحديثة في العالم العربي بخاصة، في فكرتها وتجسيدها المادي، من أداة للتحرر والانعتاق والاستقلال إلى «غول» ابتلع مشروع الدولة الوطنية، وابتلع التحديث وابتلع المجتمع ذاته، في كل الأقطار العربية تقريبا. ليس ذلك فحسب، بل إن السلطة في الدول العربية خاصة وفي العالم الإسلامي عامة أخضعت الأمة لمصالح خاصة غير إنسانية، وأدى في النهاية إلى تفجير المجتمعات وتشظّيها وتشتيتها.
وإذا كان انحراف الدولة (السلطة) في تاريخنا الإسلامي جعل الدولة فاسدة في كثير منها، ومنحرفة عن النموذج الراشد فإنه لم تكن عدوة لقيم ودين المجتمع والأمة، ولا تعمل ضده بطريقة استراتيجية. أما الدولة الوطنية الحديثة، فإن سلطتها تشهد قطيعة شبه كلية مع الأمة، بل إن العداء الذي أظهرته الدولة الوطنية الحديثة للأمة في دينها وقيمها وشعوبها، واعتمادها على ما يسمى «الدولة العميقة»، والتعامل بعنف غير مبرر وغير مسبوق مع شعوبها، وقيامها بسياسات ومشاريع ضد تطلّعات الشعوب أمر واضح جدا لمن يتابع أحداث أمتنا الكبرى، وقضاياها المركزية.
وقد لفت برهان غليون النظر إلى أن الدولة الحديثة (السلطة) في العالم العربي تحولت إلى دولة منتجة لـ «نخبة» اجتماعية هي أقرب إلى نخبة المستوطنين أو المعمرين «الأجانب» منها إلى نخبة وطنية، وإلى حاضنة للوحش الذي سينقضّ على هذه الشعوب، بدلًا من أن تكون أداة لتحرير أبنائها وتحويلهم إلى مواطنين متساوين، واحتضان ممثليهم الحقيقيين.
وبدورها، صارت هذه النخبة التي أنتجتها الدولة الحديثة إلى جماعة متنفذة شكلت الدولة العميقة، وعملت على إلصاق تهمة التخلف بدين الامة وقيمها وموروثها الحضاري، وهو ما جعل برهان غليون يرى أن هذه التهم الاستشراقية، تهم زائفة، استعملتها نخب الدولة العميقة، لتبرير تسلطها على الأمة ومعارضة تحررها بقيمها ودينها، والحقيقة التي يرى غليون انها لا تقبل الدحض، هو أن عجز العرب عن التحديث والحرية والنهضة الحضارية، لا يرجع إلى الإسلام ولا إلى التاريخ، ولا إلى طبيعة العرب، بل يرجع إلى طبيعة «الدولة الحديثة» نفسها التي بدل ان تكون دولة نخبة المجتمع وصفوته تحولت إلى دولة (سلطة) «النخبة» الغريبة أيديولوجيا عن مجتمعاتها، ثم تحولت إلى دولة «المافيا» او العصابة، كما اشتهر ذلك في الجزائر في فترة حراك فبراير 2019.
إن هذه السلط، في أغلب دول العالم العربي خاصة، والعالم الإسلامي عامة، هي سلطة «الدولة العميقة» التي أنتجتها الأجهزة المختلفة للسلطة، تشعر بالعزلة النفسية والشعورية والقيمية عن باقي افراد المجتمع، ولهذا ترى في نفسها مفصولة عن تطلعات المجتمعات التي تحكمها، ولا ترى في الشعوب أهلية لتحكم نفسها، أو تختار هذه الشعوب من يحكمها، ولهذا فإن هذه «النخبة» التي أنتجتها «الدولة الحديثة»، تعمل بكل الوسائل المروعة وغير المشروعة على ترسيخ نفوذها، وغلق باب الحريات والاختيار الحر، لكي لا تظهر نخبة من رحم الأمة؛ تنطلق من دين الأمة وتحمل قيمها وتعمل وفق مقاصد الأمة، تحريرا وعدلا ونهضة حضارية.
وما لم تبادر شعوب أمتنا ونخبها الحرة سواء ممن هم في السلطة أم خارجها، ما لم يبادروا إلى تحرير إرادات الشعوب، وبناء نظم ديمقراطية تقوم على الاختيار الحر لمن يتولى الشأن العام، ويتصالح مع دين الامة وقيمها، ويصوغ المشاريع والسياسات بما يحقق لشعوب امتنا الحرية والكرامة، والمواطنة القائمة على الخضوع للقانون بالتساوي، والشعوب بالانتماء لشعوب الأمة، فإن دولنا ومجتمعاتنا ستشهد مزيدا من التشظي والنزاعات التي تغذيها « الدولة العميقة»، وتعتاش عليها النخب المصنوعة على عين «الدولة الحديثة»، لتستمر في استنزاف خيرات أمتنا، دون أن تحقق شعوب أمتنا لنفسها أي خطوة إيجابية لتحقيق نهضة حضارية، بموجبها تتحقق ضمانات العيش الكريم لكل فرد من أفراده، وتتحقق به مكانة لأمتنا بين الأمم القوية.
*مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية/ جامعة قطر