الذكاء يتأنث !
أ. عبد الحميد عبدوس/
جاءت نتائج الامتحانات الوطنية لهذا العام (2022) في شهادتي التعليم المتوسط والبكالوريا لتؤكد ظاهرة مافتئت منذ عدة سنوات تتصاعد في الوسط التربوي، وهي ظاهرة تفوق الإناث على الذكور في نسبة النجاح وفي احتلال المراكز الأولى في صفوف الممتحنين، وإذا كانت الإناث قد استطعن في السنة الفارطة(2021) أن يحصدن المرتبة الأولى والثانية على المستوى الوطني في امتحان شهادة البكالوريا فإنهن توصلن في هذه السنة إلى الفوز بكل مراتب منصة التتويج ـ كما يقال في الأوساط الرياضية ـ فقد اعتلين المراتب الثلاث الأولى وحظين بتكريم رئيس الجمهورية وكبارالمسؤولين في الدولة.
يقول المختص في علم النفس المدرسي عصام بن ضيف الله: «إن الإناث يتفوقن على الذكور ليس فقط في الامتحانات الرسمية، لاسيما امتحان شهادة نهاية المرحلة الابتدائية، شهادة التعليم المتوسط وشهادة البكالوريا، وإنما قد سجلن تفوقهن على الذكور حتى في الاختبارات العادية المبرمجة خلال الموسم الدراسي. وللإشارة فإن ما يقارب من 60 % من الطلاب في أقسام العلوم التكنولوجيا والعلوم الأساسية من الإناث أن النسبة في السبعينيات والثمانينيات، في أقسام العلوم التكنولوجية والعلوم الأساسية، لم تكن تتجاوز 10 ٪ .
وقد أثبتت دراسة ميدانية أمريكية أن سر تفوق الإناث على الذكور يعود إلى أن الإناث يتميزن بحسن الإصغاء إلى التعليمات والقيام بالواجبات الدراسية واتباعها بدقة، فضلا عن اكتسابهن قدرات ضبط النفس والانضباط الذاتي التي ترافقهن حتى مراحل الدراسة المتقدمة.
كما أشارت دراسة أخرى إلى أن الفتيات يقمن بأداء واجبهن الدراسي عوض مشاهدة التلفزيون والتسلية، فيما يفضل الذكور مشاهدة التلفاز، كما تسعى الإناث إلى التركيز على فهم المادة، فيما يفضل الذكور التركيز على تحقيق النتائج النهائية من دراستهم..
لا شك أن ظاهرة تفوق الإناث على الذكور في المجال التعليمي تشكل أحد أبز سيمات التطور الاجتماعي والثقافي والاقتصادي في الجزائر. تقول الباحثة الاجتماعية الأستاذة ريم بن زايد «إن التعليم بمختلف مستوياته هو الركيزة الأساسية لبناء المجتمع وتطوره وهو حق أساسي لكل فرد من أفراده دون تمييز، بحيث انه يؤثر بشكل مباشر و يتأثر بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية، فهو الوسيلة الأمثل للخروج من دائرة الفقر والجهل والتخلف وتحقيق تنمية على المستوى الفردي والجماعي. حاليا أصبح تقدم المجتمعات يقاس بمدى التقدم المحقق في مجال التعليم، وتعليم المرأة هو أحد الاستثمارات الهامة التي يمكن لبلد ما أن يحققها في المستقبل و هذا باعتبارها تمثل نصف المجتمع وبالتالي نصف طاقته الإنتاجية. لقد اهتمت الجزائر اهتماما كبيرا بتشجيع تعليم المرأة وتطويره، وهذا بفضل ديموقراطية التعليم ومجانيته، مما مكنها من تحقيق قفزة نوعية في التعليم في جميع الأطوار، إضافة الى تراجع الأمية».
من جرائم ومخازي العهد الاستعماري الفرنسي للجزائر أنه عمل على تجهيل وتهميش الشعب الجزائري وخصوصا المرأة الجزائرية التي كانت نسبة الأمية في اوساطها تكاد تصل إلى مائة بالمائة. ولذلك جعلت الحركة الإصلاحية في الجزائر بقيادة رائد النهضة الجزائرية الإمام عبد الحميد بن باديس تعليم البنت والاهتمام بتوعية المرأة دينيا وثقافيا وتربويا من أولويات برامجها النهضوي.
يقول الإمام ابن باديس: «المرأة خلقت لحفظ النسل، وتربية الإنسان في أضعف أطواره {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف:15] فهي ربة البيت وراعيته والمضطرة بمقتضى هذه الخلقة للقيام به. فعلينا أن نعلمها كل ما تحتاج إليه للقيام بوظيفتها، ونربيها على الأخلاق النسوية التي تكون بها المرأة امرأة لا نصف رجل ونصف امرأة. فالتي تلد لنا رجلًا يطير خير من التي تطير بنفسها.
فعلينا أن نعلمها ما تكون به مسلمة، ونعرفها من طريق الدين ما لها وما عليها ونفقهها في مثل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35].
الطريق الموصل إلى هذا: هو التعليم، تعليم البنات تعليمًا يناسب خلقتهن ودينهن وقوميتهن…»
ومن أقواله الحكيمة: «إذا علمت ولدا فقد علمت فردا وإذا علمت بنتا فقد علمت أمة».
ولم تكتف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بتعليم الفتيات ولكنها حرصت على إنقاذهن من مخططات التغريب والمسخ والقضاء على هويتهن الدينية والحضارية. وهذا ما جعل الجمعية تدخل في صراع وجودي وصدام حضاري مع المحتل الفرنسي.
لقد أحدث ابن باديس ـ عليه رحمة الله ـ دروسا للوعظ خاصة بالنساء بالجامع الأخضر، وأسس سنة (1930م) جمعية التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة، وجعل تعليم البنات فيها مجانيا لكل المتعلمات وقال: «وقد عزمت الجمعية على فتح دروس بعد –رمضان – لتعليم البنات فندعو إخواننا المسلمين إلى المبادرة بأبنائهم وبناتهم إلى المكتب فأما البنون فلا يدفع منهم واجب التعليم إلا القادرون وأما البنات فيتعلمن كلهن مجانا لتكون منهن –بإذن الله – المرأة المسلمة المتعلمة».
وبعدما تخرجت البنات من مدارس الجمعية سنة 1938م تأثرن كثيرا لأنهن لم يجدن مدارس أخرى يتوجهن إليها لإتمام الدراسة على عكس الأولاد الذين أرسلوا إلى الزيتونة، وعندما اطلع ابن باديس على إعلان بمجلة الرابطة يفيد بوجود مدرسة بدمشق تسمى «دوحة الأدب» خاصة بتعليم البنات كتب رسالة في 9جمادى الثانية 1357هـ/ أوت 1938م إلى مديرة المدرسة السيدة عادلة بيهم الجزائري يطلب منها التفضل بقبول مجموعة من التلميذات للالتحاق بها وهذا نص الرسالة:
«الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله.
قسنطينة 9 جمادى1357هـ/ 6 أوت 1938م.
حضرة السيدة الجليلة رئيسة جمعية دوحة الأدب المحترمة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فاسمحي لي يا سيدتي أن أتقدم إلى حضرتك بهذا الكتاب عن غير تشرّف سابق بمعرفتكم، غير ما تربطنا به الروابط العديدة المتينة التي تجمع بين القطرين الشقيقين، الشام والجزائر.
يسرّك يا سيدتي أن تعرفي أن بالجزائر نهضة أدبية، تهذيبية، تستمد حياتها من العروبة والإسلام، غايتها رفع مستوى الشعب العقلي والأخلاقي، ومن مؤسسات هذه النهضة جمعية التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة، ولما علمت إدارتها بجمعيتكم المباركة بما نشرته عنها مجلة «الرابطة العربية» رغبت أن ترسل بعض البنات ليتعلمن في مدرسة الجمعية، فهي ترغب من حضرتكم أن تعرّفوها بالسبيل إلى ذلك.
تفضلي سيدتي بقبول تحيات الجمعية وإخلاصها.
والسلام من رئيس الجمعية عبد الحميد بن باديس».
وقد ردت السيدة مديرة المدرسة بالموافقة على طلب الشيخ ابن باديس، واستعدت مجموعة من البنات للسفر إلى الشام، للعام الدراسي 40/39 إلا أن اندلاع الحرب العالمية الثانية في شهر سبتمبر من سنة 1939 ووفاة ابن باديس يوم 16 أفريل 1940م حالا دون تحقق ذلك الحلم.