في حفل تكريم الدكتور عمار طسطاس أستاذ الأجيال بالجامعة الإسلامية بقسنطينة مؤسس مدرسة الوعي العقدي في بناء الوعي الحضاري
أ. محمد مصطفى حابس جنيف/سويسرا/
كان تكريم الأستاذ الدكتور عمار طسطاس – نهاية الأسبوع قبل الماضي- على هامش حفل تخرج طلبة قسم العقيدة ومقارنة الأديان، بحضور مسؤولي الجامعة وكلية أصول الدين وبعض مسؤولي وأساتذة الأقسام، إذ كان للأستاذ الدكتور السعيد دراجي مدير الجامعة كلمة شكر وترحيب بهذه المناسبة، أثنى فيها على الأستاذ الدكتور عمار طسطاس وعلى مسيرته الحافلة بالجد والتجديد، والعطاء المستمر المتنوع، رغم أعاصير وباء كورونا التي شلت العديد من المؤسسات في الجزائر وخارجها، إذ كادت أن تأتي على الأخضر واليابس لولا ستر الله وحفظه، كما رحب السيد المدير بمشاركات الدكتور طسطاس العلمية النوعية كعادته وحض الكلية على الاستفادة من خبرته من خلال استشارته والاستئناس برأيه.
وبذات المناسبة؛ تم تسمية هذه الدفعة من خريجي قسم العقيدة ومقارنة الأديان باسم الأستاذ المحتفى به «الأستاذ الدكتور عمار طسطاس».
أما بقية تدخلات الأساتذة فقد تم تسجيل كلماتهم وعرضها في شريط لمفاجأة المحتفى به وكذا باقي الزملاء والطلبة، وهنا أحب أن أشكر الأستاذ الفاضل الذي تكرم بتسجيل الكلمات وإرسالها إلينا في زحمة الأشغال وتعدد الانشغالات والمهام الدراسية والادارية، كباقي الأساتذة مع نهاية السنة حيث تتزاحم المهام الإدارية والأنشطة أياما قبل نهاية حصاد آخر عنقود السنة الأكاديمية، وبداية العطلة الصيفية.
دعوة إلى التأمل في حياته ومسيرته وجهاده العلمي والتربوي الطويل والكبير
بعدها فتح المجال لطابور متزاحم من الأساتذة كل يشكر ويذكر ويمدح .. طبعا باقتضاب شديد، لأنه لولا ضيق الوقت لأمضينا أياما وليالي، ما وفينا الرجل حقه، على حد تعبير أحد الزملاء الأساتذة!!
من جهته أشار الأستاذ د. سلمان نصر إلى سلوك الأستاذ طسطاس في الإخلاص والورع والتقوى.
أما الأستاذ د. السعيد عليوان، فقد ذكر بقوله «بتقاعد الأستاذ طسطاس، تكون الجامعة قد فقدت أحد أركانها، فهو من القلائل الذين قضوا حياتهم في الخدمة بإخلاص وتجرد» ..
أما أ.د. محمد جعيجع، فقد ذكر بقوله «إن الدكتور طسطاس يعتبر مؤسس مدرسة الوعي العقدي في بناء الوعي الحضاري وهي مدرسة جديدة في صياغة وعي العقيدة، ويمثل نموذجا للأستاذ الرسالي الذي يحمل هم الرسالة..».
من جهته قال أ.د. عبد العزيز شلي: «إن مهنة الأستاذية مهنة شريفة ونبيلة تأهل لها رجال أمثال الأستاذ عمار، الذي كان من الرعيل الأول لهذه الجامعة، بحيث بذل جهدا كبيرا في تنشئة الأجيال.
من جهة أخرى أشاد أ.د.لمير طيبات، بقوله:» إن الأستاد عمار، يمثل بالفعل القدوة التي يجب أن يقتدي بها الأساتذة والطلبة معا، فهو رجل علم راسخ في اختصاص بحق وحقيقة فهو أستاذ العقيدة الإسلامية، ولا فخر!!»..
أما الدكتور أحمد عبدلي، عميد كلية أصول الدين فقد شكر الأستاذ على عطاءاته، أملا منه «أن يستمر في البحث والكتابة ليستفيد منه طلبتنا وأساتذتنا من تجربته وخبرته»..
أما الدكتور يوسف العايب، فكان يرى فيه الأستاذ القدوة، مذكرا بقوله: «لا ترى الأستاذ عمار إلا حاملا لكتاب، محرضا الطلبة على المطالعة في كل وقت وآن !!».
أما زميله الدكتور ياسين بريك، فيرى في الدكتور طسطاس، أنه رجل متعاون وصاحب خير وفضل على الكثير من أقرانه في الجامعة الإسلامية وخارجها»، نفس الشعور ذهب إليه زميله الدكتور ميلود رحماني.
ذكريات مسيرة نصف قرن من الصحبة والصداقة
أما الدكتور الطيب برغوث فقد كانت له حصة الأسد، بحكم زمالته بالأستاذ المحتفى به منذ نصف قرن أو تزيد، وكذا وجوده خارج الوطن في المهجر على بعد آلاف الكيلومترات من مكان الحفل، فكتب يقول:
« رغبت إلي بعض أخواتي من طالبات ماستر 2 بقسم الدعوة والإعلام بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة، أن أقول كلمة في حفلة تكريم أخي البروفيسور عمار طسطاس حفظه الله، فرفرف قلبي لذلك كثيرا، وازدحم خاطري بذكريات مسيرةِ ما يقرب من نصف قرن من الصحبة والصداقة، والأخوة الحقيقية المستمرة منذ اللقاءات الأولى بجامعة قسنطينة منتصف سبعينيات القرن الماضي حتى هذه اللحظة التي أسجل فيها هذه الخاطرة، وإلى أن نجتمع يوم القيامة في الجنة بفضل الله ومنه وكرمه علينا، إخوانا على سرر متقابلين إن شاء الله تعالى».
متسائلا بقوله: «ماذا تريدون أن أستحضر من ملحمة الذكريات بيني وبينه، إنها ملحمة كبيرة يقع جزؤها الأعظم في ذاكرتي العميقة أو ما يسمى باللاشعور، المليء بالمحبة والاحترام والتقدير غير العادي له، لأنني وجدت فيه منذ البداية، خصالا جوهرية جذبتني إليه، وعمقت صحبتي وصداقتي وأخوتي له مع مرور الوقت، وفي مقدمتها، الرغبة والجدية والشغف في طلب المعرفة ونهم القراءة، وسلامة الصدر وسعته، والصدق والإخلاص فيما يقوم به من أعمال، وما يتحمله من مسؤوليات، والصبر وطول النفس، والهدوء والرزانة، والقدرة على الانصات، والشجاعة في الجهر بالحق عند اللزوم، والانصاف لمن يختلف معهم، حيث نادرا جدا، ما شممت منه رائحة حب الانتصار للنفس، بل كان كثير الالتماس للأعذار لهم! وهو شديد التواضع، سمح المعاملة، خدوما».
بتقاعده وهو في قمة نضجه وعز عطائه، فقدت الجامعة ركنا من أركانها: ثم يستطرد المفكر الجزائري بقوله: «ولهذا فإنني عندما سمعت بخبر تقاعده وهو في قمة نضجه وعز عطائه، حزنت كثيرا، وشعرت وكأن الجامعة فقدت ركنا من أركان الخيرية والبركة والرشد والرحمة فيها، وأن الطلبة فقدوا مرجعا وسندا معرفيا وتربويا كبيرا، هم في أمس الحاجة إليه، ليأخذوا منه العلم والتربية والسلوك والرسالية المطلوبة التي يبنون بها أنفسهم، ويستعدون للمساهمة الصادقة الفعالة في خدمة أنفسهم ومجتمعهم وأمتهم».
هذا هو المفكر الدكتور طسطاس، الذي تتلمذ في كتاتيب سيدي عبد العزيز بولاية جيجل، كما ساح في كافة مراحل دراسته في أحضان مؤسسات الأمير عبد القادر- اسم على مسمى- في مرحلة الابتدائي درس في مدرسة تحمل اسم الأمير عبد القادر، وفي الثانوية درس في مؤسسة تحمل اسم الأمير عبد القادر، لينتهي به المطاف في جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية كأستاذ وموجه، فالرجل فعلا ترعرع في أحضان جهاد وورع وزهد الأمير عبد القادر!!
وفي أعين كوكبة من زملائه وطلبته، «هذا الشبل من تلك الأسود»، فطينة المفكر الوسطي المتكامل الدكتور طسطاس عجنتها أنامل متوضئة وساهمت في تكوينها مدارس فاعلة، وشحنتها شخصيات واعية مرموقة أنارت هذا القرن بمعارف حضارية وازنة أمثال أساتذته ومشايخه، منهم على سبيل الذكر لا الحصر، المفكر مالك بن نبي شاهد القرن، والمفكر محمد المبارك الجزائري الأصل والسوري الموطن، والدكتور إسماعيل راجي الفاروقي الفلسطيني المولد ومؤسس المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن، ومولانا أبو الأعلى المودودي الهندي، وغيرهم من مجددي هذا القرن.
«قلم مقل» كباقي مفكري الجزائر، على الرغم من قلة حضوره الإعلامي
والبروفيسور طسطاس من الشخصيات العلمية والثقافية والفكرية والأكاديمية الكبيرة في الجزائر ومن المقربين الذين تعلموا وعاصروا البعض من هؤلاء المفكرين الكبار.. وعلى الرغم من قلة حضوره الإعلامي بسبب انشغالاته الأكاديمية المتعددة، إلا أن الدكتور طسطاس كالدكتور عبد اللطيف عبادة الذي كان يصف نفسه بمفكر صاحب «قلم مقل»، كما ذكرنا ذلك عن المرحوم عبادة منذ سنوات في مقال خاص برحيله، رحمة الله عليه.
بهذه الكلمات لا أريد أن أتزيد في القول عما قيل وكتب هذا الأسبوع عن مناقب الدكتور طسطاس، فقط أحببت بهذه المناسبة الطيبة أن أتضرع إلى الله تعالى، بأن يجزل لأستاذنا عمار طسطاس المثوبة، ويجزيه عمّا قدّم في سبيل العلم وإصلاح المجتمع خير جزاء، وأن يعوّض الجامعة الإسلامية من بعده رجالًا مخلصين يأخذون بيد أبنائها إلى ما فيه رفعتها وعزتها..
من جهتي تعرفت على الأستاذ طسطاس في لقاءات عابرة في ملتقيات الفكر الإسلامي، كما تعرفت عليه أكثر أيام استضافتنا له في منتصف ثمانينيات القرن الماضي رفقة الشيخ موسى السعيدي والمرحوم الدكتورعبادة والدكتور محمد رمرم وشقيقه يزيد والأستاذة مريم عبادة أم قدس وآخرين من قسنطينة، لما يحلون ضيوفا علينا في مسجد جامعة الجزائر المركزية، ومساجد الأحياء الجامعية بالعاصمة بمناسبة ندوات حينها كانت تسمى بمعارض الكتاب الإسلامي، إذ كانت تفرض نفسها بقوة كنشاط كبير متميز وحيد في الجامعات الجزائرية، وبعدها ملقيات الدعوة الإسلامية بحيث كان يأتيها طلبة العلم من كل حدب وصوب على اختلاف تخصصاتنا ومشاربنا ..
العظماء والعلماء والمجددون والأئمة الأعلام يعيشون للناس والأمم ولا يعيشون لذواتهم
كما أذكر أننا التقيناه مطولا في جامعة قسنطينة رفقة الشيخ الطيب برغوث، في ندوة «إسلامية المعرفة» التي نظمت بالاشتراك مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن والذي كان يشرف عليه المرحوم الدكتور طه جابر العلواني العراقي، وحضرها ممثلا عنه المرحوم الدكتور جمال الدين عطية، والدكتور محمد عمارة من مصر، والدكتور محمد أمزيان من المغرب والعديد من أساتذتنا من الجزائر لا تحضرني كل الأسماء، منها أظن، الدكتور عمار طالبي والدكتور عبد اللطيف عبادة والدكتور الطاهر عامر وغيرهم، رحم الله من مات وثبت من بقي على درب العطاء والتضحية.
ومثل ما كنت قد كتبت في مقالات سابقة عن رحيل بعضهم، أمثال المفكر طه جابر العلواني العراقي والفاروقي، والمفكر جمال الدين عطية، والدكتور محمد عمارة، والدكتور الهاشمي التيجاني رحمة الله عليهم .. فعلا أصبح يقيني أن العظماء والعلماء والمجددين والأئمة الأعلام يعيشون للناس والأمم ولا يعيشون لذواتهم رغم المحن والصعاب وحتى الأمراض- وما وباء كورونا عن المبصرين ببعيد- يرتفعون بأقلامهم وأفكارهم إلى ثريا المطالب ويرتقون إلى معالي الغايات. يكبر فكرهم فينير الدروب، وتعظم قلوبهم فيحبهم الخلق، وتعم أفضالهم فتشمل الجميع، وتلك من نعم الله على عباده الأصفياء الأنقياء الأتقياء..
إننا جميعا نمضي سراعا في طريقنا إلى الله، ولكن آثارنا في الأجيال تبقى
ذكرت – منذ أيام فقط -للشيخ الطيب، بمناسبة تكريم زميله ما هو متداول، عنه والشيخ عمار، قائلا له، لقد عَرَفتك قسنطينة بزمالتك الروحية والعملية مع الدكتور عمار طسطاس، وعرفتك الجزائر العاصمة بعد ذلك بزمالتك الروحية والعملية مع الدكتور الطاهر عامر، أنت لست أنت إلا بآخر معك، ما قصتك؟ .. فمن لك اليوم وأنت تعيش وحيدا في بلاد الغرب، لولا وسائل التواصل الاجتماعي لاختنقنا»!!، فرد عليَّ مكفكفا دموعه «فلان ؟!» (سأذكر هذا الاسم للقارئ الكريم في مقال خاص خشية الإطالة)..
مضيفا لي بقوله: «إننا جميعا نمضي سراعا في طريقنا إلى الله، ولكن آثارنا في الأجيال تبقى، وبركاتها تظل تصلنا بلا انقطاع، ما دام الخير الذي زرعناه كمربين ومصلحين ودعاة إلى الخير، مستمرا في الأجيال، كما بشرنا بذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام بقوله: (مَن دَعا إلى هُدًى، كانَ له مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن أُجُورِهِمْ شيئًا). ويا سعادة من ترك أثرا حميدا في هذه الأجيال، وأعتقد أن أثر أخي سي عمار طسطاس والطاهر عامر وغيرهما ممن ذكرت، في الأجيال لا يخفى على ذي بصر وبصيرة. فاللهم بارك فيهم وفي جهادهم الفكري والتربوي الطويل..».
واختتم كلمته بالقول لنا وللأجيال بأن صحبته وصداقته وأُخوَّته للأستاذ سي عمار طسطاس، كانت من النعم التي أكرمه الله تعالى بها في حياته، وإنه تشرف بذلك واستفاد منه كثيرا، فله منه صادق الحب والتقدير والاحترام، وجزيل الشكر، وخالص الدعاء.
ناصحا للطلبة والأساتذة بقوله «وأعلموا أنكم غدا بين يدي الله موقوفون وعن أوقاتكم وأعمالكم مسؤولون»، مذكرا بالحديث الشريف: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟» (رواه الترميذي). مبينا لهم ذلك بقوله: «..وكل غائب قد يعود، إلا الوقت! فهو أنفاس لا تَعُود، فاغتنموا أعماركم بعمل الخير، فالأيام معدودة والأنفاس محدودة..» والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.