ليتفكروا

عوائق النهضة: ثقافة الانتظار وفقدان المبادرة

د. بدران بن الحسن */

مما جاء الإسلام لترسيخه أن صناعة التاريخ وتحقيق الخير ومواجهة الشر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إنساني، وأن حركة التاريخ تقوم على سنن كثيرة، من بينها “سنة التدافع”، وأن تحقيق النصر والتمكين يقوم على سنن واضحة بثها الله في الاجتماع والتاريخ والآفاق والأنفس كما بثها في كتابه العزيز، ولا يتم الأمر بطرق سحرية أو خرافية.
بل أن فكرة المخلص التي تقوم عليها المسيحية بطريقة غرائبية، جاء الإسلام ونسفها من أساسها، فليس هناك مخلص ولا خلاص، وإنما هناك سعي وفلاح أو تسويف وبطالة وخسران.
ولهذا لما نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بادر إلى الدعوة والتربية، وتحمل أعباء بناء الأمة والمجتمع والدولة، وعلّم أصحابه المسارعة إلى إعلاء كلمة الله، ونصرة الإسلام، وخدمة المسلمين، وتغيير واقعهم، وبناء النموذج الذي يحقق الخير للإنسانية، كما يسلك بها طريق الحياة الطيبة.
ولكن أمتنا منذ فترة ليست بالقصيرة سرت فيها ثقافة الانتظار، وتعطلت فيها روح المبادرة، واستكانت إلى نفسية المنقذ الملهم الذي يأتي ينقذ الأمة مما هي فيه، دون أن تقوم أمتنا بواجبها كبقية الأمم في إحياء مواتها، وإيقاظ نوامها، وتحريك طاقاتها المعطلة.
ولعل هذه من أهم عوائق نهضة أمتنا؛ أي أنها تريد أن تخرج من تخلفها، لكن لا تبادر إلى ذلك؛ أفرادا ومجموعا، حيث غلب على ثقافتنا في عصورنا الأخيرة الخوف من المبادرة، والحذرة من روح المغامرة، وفقدان شجاعة الإقدام على تجريب الحلول، والبحث عن مخارج غير مألوفة لما نحن فيه، فاستكنا على الرتابة وإلى الحلول المألوفة، وإلى المشاريع المألوفة وأنماط العيش المعتادة، وطرائق التعليم القديمة، وسبل الإنتاج التقليدية، بل وإلى نماذج الشخصيات المألوفة، حتى خبا فينا الاجتهاد، وترسخت فينا دروشة غريبة عن روح القرآن وعن منطق التربية النبوية الذي يقوم على الإيجابية والمبادرة والمسارعة إلى الخيرات.
ولم يعد فينا تلك الروح التي جعلت أمتنا “خير أمة أخرجت للناس”، وجعلت أبناءها رواد حضارة، ونماذج للخيرية البصيرة عبر التاريخ. بل ونسينا نماذج الصحابة المقدامين والتابعين المبادرين وأجيال أمتنا الذين كانوا نماذج حية في “الإيجابية المنتشرة”، التي غيرت مصير الإنسانية، ليس بكثرة عددها، ولكن بفعاليتها ومبادرتها وعدم استكانتها للمألوف ولو كان مخالفا لسنن الاجتماع ومفارقا للقدوة المرتضاة.
وتاريخنا منذ الجيل الأول مليء بنماذج المبادرة التي ينبغي التعلم منها والخروج من الاستكانة والغثائية والانتظار والهامشية وانتظار المخلص أو العور بالدونية والعجز.
فانظر مثلا إلى نموذج نعيم بن مسعود رضي الله عنه، الذي أسلم قبيل غزوة الخندق، كيف كان مبادراً ولم يقل أنا مسلم جديد، أو أنا فرد واحد ماذا أفعل، بل ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في المبادرة، وكان الذي كان منه في نصرة المسلمين.
كانت مبادرة سيدنا نعيم رضي الله عنه أحد أسباب النصر على قريش وحلفائها. فقد أتى إلى رسول الله فأسلم. وقال: إن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت يا رسول الله. قال: “إنما أنت فينا رجل واحد فاخذل عنا ما استطعت فإن الحرب خدعة”.
فأتى قريظة -وكان نديمًا لهم في الجاهلية- فقال لهم: قد عرفتم ودي إياكم. قالوا: صدقت. قال: إن قريشًا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، بها أموالكم وأولادكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشًا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فليسوا كأنتم، فإن رأوا نهزة أصابوها وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، فلا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنًا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدًا حتى تناجزوه فقالوا: لقد أشرت بالرأي.
ثم خرج حتى أتى قريشًا، فقال لأبي سفيان ومن معه: قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدًا وإنه قد بلغني أمر قد رأيت عليَّ حقًّا أن أبلغكموه نصحًا لكم فاكتموه عليّ. قالوا: نفعل. قال: تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وأرسلوا إليه أنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين قريش وغطفان رجلاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى تستأصلهم. فأرسل إليهم: نعم. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون رهنًا منكم من رجالكم فلا تفعلوا.
ثم خرج فأتى غطفان فقال: يا معشر غطفان أنتم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ولا أراكم تتهموني. قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم، قال: فاكتموا عني. قالوا: نفعل. ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم.
فلما كانت ليلة السبت من شوال، وكان من صنع الله لرسوله أنه أرسل أبي سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان، فقالوا: إنا لسنا بدار مقام قد هلك الخف والحافر فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا. فأرسلوا إليهم: أن اليوم يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئًا، وقد كان بعضنا أحدث فيه حدثًا فأصابه ما لم يخف عليكم ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدًا حتى تعطونا رهنًا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدًا، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا ولا طاقة لنا بذلك.
فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: والله لقد حدثكم نعيم بن مسعود بحق. فأرسلوا إلى بني قريظة: إنا والله ما ندفع إليكم رجلاً من رجالنا فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا.
فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا فإن رأوا فرصة انتهزوه. وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم. فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنًا. فأبوا عليهم. وخذل الله بينهم.
إن الشاهد في ما فعله سيدنا نعيم هو أن المبادرة الفردية والجماعية ضرورية في مختلف المجالات، وأن الانتظار وثقافة الانتظار أمر أهلك أمتنا وعطّل طاقاتها، وأن المجتمعات والدول والأمم تنهض بالمبادرات، وأن التاريخ لا يبدأ بإجماع الناس واجتماعهم على أمر ثم الانطلاق في إنجازه. بل إن الأمم دائما ما تنهض بوجود “النفر” الذين ينفرون ويبادرون إلى فتح ورشات صناعة التاريخ، ويشكلون نواة جذب تجذب إليها الأنفس المتطلعة للعمل والانجاز.
وحتى نتجاوز عائق الانتظار، فإنه على أبناء أمتنا وبناتها ممن كانت له فكرة أو مشروع لخدمة الوطن والمجتمع والدولة والأمة، أن يبادر ولا ينتظر موافقة الناس جميعا، فإن الواقع هو المحك الحقيقي لمصداقية المبادرة؛ فإن الفكرة إذا كانت لها “كثافة الواقع وحقيقته”، فإنها ستجد من يحملها ويناصرها ويتبعها وينفذها.
بادروا ولا تنتظروا، فإن ثقافة الانتظار ثقافة قاتلة للأمل والعمل.

* مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية/ جامعة قطر

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com