معركة الوعي/ د. علي حليتيم
“لا وعي بدون ربانية، ولا ربانية بدون وعي”؛ غياب الربانية يؤدي بالمسلم إلى الفلسفة والجدل والقول بلا عمل، والكلام في كل شيء، وخلط الأولويات، وتبرير الأخطاء والشذوذ، وتقحّم المعاصي في الحدود والشبهات، والقعود على قارعة طريق العمل للانشغال بنقد العاملين، وكشف عوراتهم والسخرية منهم ومن ما يشتغلون به، وفي المقابل تؤدي الربانية وبدون وعي إلى الحمق والكوارث والانخراط دون شعور في مخططات العدو.
لا يمكن أن نصف كل الجموع الغفيرة من المتدينين التي تؤيد الدكتاتورية والطغيان بالعمالة والخيانة، ولا يمكن أن نفهم استقراءها لكل الكوارث التي ترتكب باسم الإسلام إلا بمنظار الحمق والجهل، وتغييب الوعي الذي إن طغى على الإيمان فإنه يقوده إلى نفق الرداءة، وتجعله يقف في وجه الدعوة الإسلامية وهو يظن أنه يدفع منكراً وفساداً.
قد يرفض أي من هؤلاء المتدينين المغفلين أن يترك صلاة واحدة، بل ربما أن يترك سنة أو يرتكب سيئة من الصغائر، لكنه لن يجد غضاضة في الحماسة لكل المخازي التي ترتكب باسمه، وينفذها هو وأمثاله.
إن معركة الإسلام الكبرى هي معركة الوعي حين يفهم المغفلون أنه لا معنى لإسلامهم وإيمانهم إذا كانوا يقفون في صف العدو الصهيوني، ويتصالحون معه أو يؤيدون من يتصالح معه، ويوالونه ويمدون حلفاءه بالمال، أو يؤيدون من يفعل ذلك ولو بالسكوت أو يؤيدون من يحارب المرابطين في أرض الرباط بالحصر والحصار والقهر والإذلال.
إن معركة الإسلام الكبرى هي معركة الوعي حين يفهم الغافلون أو المغفّلون المحايدون المتفرجون في معركة فلسطين أن حيادهم كان أحد العوامل الحاسمة في انتصار العدو، وتحقيقه الخطوة تلو الخطة في مشروع الاستيطان والتهويد التي لم يكن يجرؤ عليها لولا اطمئنانه إلى سكوت الساكتين من جموع المسلمين.
وإن معركة الوعي الكبرى هي إعادة بعث الرموز الإسلامية التي نجح العدو عن طريق عملائه في طمسها وتشويهها ومطاردتها حتى تستأنف مهمّتها في الشرح والتبليغ والتوعية والإصلاح والقيادة، لإعداد الأمة لمعركتها الفاصلة.
إننا نعيش في زمن بلغ الكيد فيه أوجه حين غدا العدوّ الذي يشكل في عقول الجماهير صورة التديّن التي تناسبه، ويضع في مناهجها التربوية صورة الأجيال القادمة التي يريدها، ويرسم لحكوماتها السياسات التي تؤدي حسب ظروف كلّ بلد إلى خفض التوتّر أو التحييد أو التطبيع مع العدوّ، ويجعل الإعلام يوجه الجماهير نحو كلّ ثقافة تقتل فيه روح المقاومة، وتبعده عن قضايا أمته، ويختم المشهد بعمله على تشويه صورة المقاومين لهذه الخطّة فيبرزهم في صورة الشّاذين الخارجين عن القانون، أو عن المجتمع، أو حتّى عن الدّين، حتى فقد الناس الإحساس بالفرق بين الحقّ والباطل في كثير من الأحيان، وفي كثير من القضايا ممّا لم يحدث له مثيل من قبل في تاريخ الإسلام كلّه.
لكن سنن الله عزّ وجل التي علمنا إياها في كتابه العزيز تنبؤنا أننا لا نعيش شذوذا من الأحداث، ولا غريبا من التاريخ، فالتاريخ كلّه كان للباطل سؤدد وعزّة، حتى يظن الناس أن لن يغلب أبدا، وفي تاريخ الإسلام كلّه مرّ الدين بفترات عصيبة من الكيد له والمكر به منذ غزوة أحد والأحزاب وتبوك، والردّة في زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وغزوات المغول التي كاد الإسلام فيها يفنى ويموت، والحروب الصليبية التي بلغ فيها المسلمون من الهوان والذل والفقر والتشرذم، حيث لا يكاد يصدّق، وكانوا يقاتلون بعضهم بعضا، والعدو ينظر شامتا متعجّبا، ومشجعا ومعجبا، حتى أكلوا من الجوع الفئران والموتى، فكان الناس في القاهرة يدفنون موتاهم ليلا حتى لا تنبش قبورهم، وتسرق وتؤكل موتاهم؛ وقد بلغ الهوان بالمسلمين في الأندلس مبلغا – الله به عليم- حتى إن أحد أمراء الطوائف بعث ببرقية هدية إلى أحد أمراء النصارى، هدية ثمينة غالية، فبعث له الأمير النصراني في المقابل قردا جزاء على هديّته “ففرح فرحا عظيما” كما ذكر المؤرخون.
لكن الإسلام خرج بعد كلّ تلك الهزائم، ونهض من جديد بسبب حركات التجديد التي كان يكتب لها النجاح حين يقودها الرّبانيون المدركون للتحدّي، وطبيعة المعركة والواعون بالهدف والغاية، المتحلون بالصبر والحكمة والمرونة والمرحلية، المترفعون عن كلّ المعارك الجانبية التي تعيقهم عن معركة الوعي، ومسيرة الإصلاح وهدف التجديد والتغيير.
إن معركتا مع العدو هي معركة الظهير الشعبي للدعوة قبل أن تكون معركة السلاح والقتال، ماذا أفادنا نصر أكتوبر 1973م، سوى أنّه أدى إلى أكبر كارثة على الجبهة الفلسطينية، ألا وهي السلام المصري مع إسرائيل…!
وهذا كلّه بسبب قلّة الوعي الجماهيري الكافي بأبعاد الصراع مع العدو، وماذا أفادتنا هزيمة 1967م المدوّية؟ سوى أنها علّمتنا أن حماس الأمة العظيم لفلسطين آنذاك لم يفدنا كثيرا في ظل قيادات مهترئة عديمة، إن لم تكن خائنة؟! فإن جهلها وحمقها وسوء تصرفها يجعلها تخدم أهداف العدو ومساراته، مثل الخائنين تماما بتمام.
وحين تقاد الأمة المتحمّسة غير الواعية بقيادات منحرفة (جهلا أو موالاة للعدو)، فإن النتيجة ستكون كارثية على المعركة بكل المقاييس.
إن معركة الوعي تقوم على أساس بعث الإيمان في الجموع التي ينقصها الإيمان، وبعث الحماسة في القلوب التي تعوزها الحماسة، وبثّ الوعي في الضمائر التي غادرها الوعي حتى ينشأ الجيل المؤمن المتقد الواعي، المستعد لخوض معركة تحرير الأقصى المبارك واستئناف الحياة الإسلامية من جديد.
إن الوعي هو الوعي بالماضي وعبره ودروسه، والوعي باللحظة الراهنة وتحدياتها وموقعنا فيها، وموازين القوى حتى يكون عملنا وخطابنا مناسبا له، والوعي بالأهداف المرحلية التي تخدم الهدف الأخير المنشود؛ ولقد تعلمنا من ثورات الربيع العربي أن أكبر المراكز العالمية لم تكن قادرة على أن تتوقع ما حصل، وسكت الذين كانوا يقولون إن الغرب على علم بكل الأحداث…! لكننا تعلمنا كذلك أن قوى الغرب تملك من المرونة وبراعة التخطيط ما يكفي كي تحوّل نصرنا إلى هزيمة، وإشراقاتنا إلى نكسات قاسية إذا لم نكن قادرين مثلهم على الفهم والتخطيط والمرونة والسرعة في الأداء المطلوب، وكل هذا في حركتنا التحريرية للأرض والإنسان.