الافتتاحية

دولــــــــة الفكرة

أ. محــمد الهادي الحســني
نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/

 

استهَلَّ العام الهجري الجديد 1444، فرحتُ أفكر فيما أكتُبُه لأن واقع المسلمين لا يسر الناظرين، ولا يُسْعِدُ الأقربين، ولا يغيظ العِدَى، فهو ظلمات بعضها فوق بعض، وما يكادون يخرجون من فتنة حتى يدخلوا في أخرى أكبر مما سبقها من فتن تدع الحليم حيران، ومع ذلك فلا يأس مع الإسلام، ولا قنوط مع الإيمان، ومع العسر يسرا.

استعرضت في ذهني ما أضعه عنوانا لهذه الكلمة، فاستقر فكري على هذا العنوان الذي يُتَوّجُ هذه الكلمة وهو «دولة الفكرة».
هذا العنوان ليس من بنات أفكاري، ولكنه عنوان لأحد كتب الدكتور محمد فتحي عثمان –رحمه الله- وتقبَّلَه بقبول حسن. والدكتور محمد فتحي عثمان أستاذ مصري عمل في ستينيات القرن الماضي في وزارة الأوقاف الجزائرية، ثم في جامعة وهران قبل أن يستقر به المقام في الولايات المتحدة الأمريكية إلى أن أتاه اليقين قبل بضع سنين..
تحدث في هذا الكتاب الصغير الحجم، الجم الفائدة، عن الدولة التي أقامها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في يثرب بعدما اتخذها دارًا وصارت تسمى المدينة التي تَنَوّرت بمقدم خير من وَطِئ الثرى. ومنها بدأ الإسلام يكتسح ظلمات الجاهلية العربية وغير العربية، ويعلن ثورة السماء على الأباطيل الأرضية.
كانت هذه «الدولة» بِدعا من الدول السابقة عليها واللاحقة بها، لأنها لم تقم على أي حتمية من الحتميات، فلا هي دولة المكيين، ولا هي دولة اليثربيين، ولا دولة قريش، ولا دولة الأوس والخزرج، ولا هي دولة المهاجرين الذين هاجروا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا هي دولة الأنصار الذين آووا رسول الله –عليه الصلاة والسلام- ونصروه.. ولا هي دولة العرب ولا دولة عرق آخر من بني الإنسان، فقد ضَمَّت تحت لوائها كلاًّ من أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي ابن أبي طالب وهم في الذؤابة من العرب، وضمت بلال الحبشي، الذي كان «عبدا» فحرّره الإسلام قبل أن يحرره أبو بكر الصديق بعدما اشتراه من مولاه، وضمت صهيبا الرومي، وسلمان الفارسي.. فنشأت أمّة بدعا من الأمم لا تقوم على أي حتمية من الحتميات….
لقد تنبه إلى هذه الفكرة التي اعتَبَرَهَا خاصة بالإسلام العالِمُ السويسري مارسيل بوَازَار في كتابه القيم «إنسانية الإسلام» فقال عنها: «ليس لفكرة الأمة الإسلامية مقابل في فكر الغرب ولا في تجربته التاريخية» (مارسيل بوازار: إنسانية الإسلام. تعريب: عفيف دمشقية.ص 182).
وخرج المسلمون من جزيرة العرب ينقلون إلى الإمبراطوريات والدول نمطًا جديدا من السياسة والحكم رِبَاطُه كلام الله، وهذا النمط «لا يطابق فكرة «الشعب» التي كانت سائدة عند مسيحيي القرون الوسطى، ولا فكرة «الأمة» الغربية التي راجت في القرن الثامن عشر» (نفسه ص182).
… ثم خَلَفَ من بعد أولئك الخِيَرَةِ خلْفٌ استبدلوا دول «الأفكار الميتة» ودول «الأفكار القاتلة» بدولة الفكرة الحية التي انتقمت من أولئك الذين نقضوا عُرَى الإسلام عروة عروة، فأصبحوا أمما، ثم دُوَلًا، ثم قبائل وعشائر، وإمارات كمفحص القطا، وصاروا كما قال الحسن ابن رشيق المسيلي:
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد
وما ظلمنا الله –عز وجل- ولكننا ظلمنا أنفسنا، واستبدلنا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وأعرضنا عن ذكر الله، فتفرقنا، فذهبت ريحنا، وأصبحنا مَطْمَعًا لكل طامع.. واستنصرنا بالأعداء على بعضنا فأُذْلِلْنَا جميعا.. وتعجب الشاعر أحمد شوقي مما آل إليه وضع المسلمين، فخاطب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قائلا:
شعوبُكَ في شرق البلاد وغربها *** كأصحاب كهف في عميق سُبَاتِ
بأَيْمَانِهِم نُورَانِ: ذكرٌ وسُنَّةٌ *** فما بَالُهُم في حالك الظلمات
وسنبقى هكذا إلى أن نغير ما بأنفسنا، فيغير الله ما بنا، ونغادر هامش التاريخ إلى قلب التاريخ، ونغيره.
ولهذا فلا أهنئ لا نفسي ولا أمتي بالعام الجديد لأننا ما زلنا نتساءل مع الأخ الدكتور ابن نعمان: «هل نحن أمة»؟ ولم نتلق الجواب إلى الآن، وندعو الله –عز وجل- أن لا يَدَعَنَا لأنفسنا الأمارة بالسوء طَرْفَة عين ولا أقل من ذلك.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com