الأمثال والأقوال الزراعية بالجزائر (مقاربة ميدانية) فصل الصـــيف
أ. د. محمد عيلان *
أشْهُر فصل الصيف في حساب الفلاحين الجزائريين، ثلاثة:
(يوليو، يليوز، غشت) . ويبدأ الفصل من 26 أو 29 مايو إلى26 غشت.
بعد فصل الربيع يأتي فصل الصيف، وهو الفصل الذي يزداد فيه نشاط الفلاح وتتعدد أعماله ومهامه، إذ يعد فرصة لجني ثمار مجهودات السنة كلها خاصة في الشمال، حيث السهول المزروعة قمحا وشعيرا والمغروسة خضرا، وحيث أشجار الفواكه التي تثمر صيفا، وهو فرصة الفلاح للنشاط والعمل وجني المحاصيل، لذلك وصفوا الصيف بقولهم:
(فاكهة الصيف اغْمَارْ) كناية عن العمل الجاد، وكناية عن جني محاصيل طال انتظارهم لها. والغُمْرُ حزمة السنابل يحصدها الحصاد بمنجله ثم يربطها بسيقان سنابل منها، وهكذا يجمع المحصول لينقل في شباك على ظهور البغال والحمير الطرحة /البدر لفصل الحب عن التبن بعد الدرس. وقد قالت العامة عن فصل الصيف الكثير من الأقوال، إلا أن ما يهمنا منها هو أثر تغيرات الطقس في الصيف على حياتهم وأعمالهم.
ترصد الأمثال والأقوال كثيرا من الظواهر والحالات التي تلازم الإنسان والحيوان في هذا الفصل الذي يعد أهم الفصول، لما يترتب عنه من ممارسات عملية ونشاطات مهنية واجتماعية.
والفلاح يمارس ذلك في زمن جَنَى فيه محاصيله التي جادت بها أرضه، فَـتَوَفَّرَ له المال الملبي لحاجاته الاجتماعية كإقامة أفراح الزواج والختان وغيرهما، أو إقامة (الزِّرد) والولائم بجوار (مقامات الأولياء).. وهي ممارسات جرت عادة سكان الجزائر ألا تجرى إلا في موسم الخصب (الربيع)، أو بعد جني المحاصيل وصفاء السماء بالليل في الصيف للإقامة طويلا تحت أشعة القمر في جو الفرح والمرح والغناء في البيادر (الطرح جمع طرحة)، إنها عودة الإنسان إلى مظاهر من طفولته بحثا عن المتعة واللهو والراحة.
و(الزَّرْدَة): وليمة سنوية يشترك في تكاليفها وإعدادها سكان القرية أو الدوار أو الجبل، تقام بالقرب من ضريح (وَلِيّ) أو مجموعة (أولياء) أجداد؛ تقربا وطلبا للرضا. وتعتقد العامة أنها إن لم تقم بهذه الوليمة قد تصاب بأذى لا تعرف كيف يُبَاغِتُهَا. والغالب أن لكل عرش (قبيلة) مُناسَبَة تقام فيها (زردة) بجوار مقام جدهم، تُـجْمَع أموالُـها من مساهمات أبناء العرش/القبيلة دون استثناء، وفي حدود ما يملك كل واحد منهم؛ دقيقا أو نقودا أو مواشي أو جهدا فرديا.. وما يقدمه من لهم صلة بهذا الجد يُعد واجبا، بينما ما كان من غيرهم يعد تَقَرُّبًا وهدية تُقْبَلُ. ولعل هذا من ترسبات بقايا (عبادة السلف)، اختفى المعتقد وبقيت الممارسة، رغم أن الإسلام قد حاربها، ولكن الترسبات الثقافية عند الشعوب الأمية تبقى وفي كل مرة يمنحونها لبوسا لضمان استمراريتها.
ويبدو أن (بوغنجة) و (الزردة) و(الوعدة) لها هدف واحد وطقوس متشابهة، وأن (البوغنجة) ممارسة أمازيغية و(الزردة) ممارسة عربية وأصلها (الثريد/الثَّرْدَة) قلبت الثاء زايا. وحفل (الوَعْدَة) عربي هي ما تُوعِد به العامةُ إن تحقَّقَ لهم ما يرغبون فيما يأملون، سيقدمون مالا نقدا، أو عينا؛ شاة أو تيسا أو ثورا، فرادى أو عائلات أو أقارب مجتمعين؛ يصرف بمناسبة إقامة (الوعدة)..وهي عندهم صدقة يتقربون بها إلى الله سبحانه.
والواقع أن هناك مصطلحات طقسية مرتبطة بالتقويم السنوي للفلاحين يمكن الإشارة إليها باختصار على سبيل التوضيح أن:
بوغنجة: أمازيغية من حيث الممارسة.
الزردة: عربية أمازيغية مشتركة من حيث الممارسة (الزردة/الثردة من الثريد) إذ تعد في هذه المناسبة أكلة الثريد.
الوزيعة: عربية أمازيغية مشتركة من حيث الممارسة.
التويزة: عربية أمازيغية مشتركة من حيث الممارسة، المصطلح من جذر (التآزر).
الوعدة : عربية عامة فهم يقولون، وعدة أولاد فلان؛ وإن كان الجد أمازيغيا قالوا: وعدة بني فلان كأن تقول بني عمران، بني يني، بني سنوس، بني فرجان، بني منصور..).
والبوغنجة والزردة (السردة/الثردة)، يمارسان في الجبال والأرياف والقرى دون تمييز ثقافي، أما مصطلح (الوعدة) فهو مصطلح عام متأخر في ظهوره عن المصطلحين السابقين لكونه يعود إلى المرحلة العثمانية بالجزائر، حسب ما أرى؛ لأن هذه الممارسة لم أعثر لها على ما يشبهها تاريخيا، وهي سنوية تقوم بها قُرى ودَواوير تحت شعار اسم جدها؛ إلا أن الملاحظ أن حَفْلها تحول إلى مهرجان للفرجة والفروسية والغناء (المدائح)؛ وتقديم الأكل.
والصيف له تأثيره على حياة الإنسان، وعلى من حوله من كائنات وحيوانات، إلى جانب ما يعتري الطبيعة من مظاهر التعرية لمساحات شاسعة من خضرتها، ومما يلاحظ من تأثيره على الإنسان والحيوان ما يرد في أقوال العامة:
(في الصيف ايْهِيجْ العَتْرُوسْ والْمَكْرُوسْ والنَّامُوسْ) أي أنه بتأثير الحرارة تهيج الحيوانات، وتزداد العاطفة الجنسية لدى المراهقين من الشباب، وتكثر الحشرات الضارة خاصة (الناموس أو الْوَشْوَايْشَة).
والعتروس: (التيس) ذكر العنز وفحلها، تَــرَى العامة من الفلاحين: أن العتروس يَكْثُر هياجه الجنسي صيفا، لما عرف عنه من تتبعه لإناثه، وهو يصدر أصواتا تطلق عليها العامة: (الْبَلْبَلَة) و(العتروس يْبَلْبَلْ) بتفخيم جميع حروف الكلمة، محاولة منه لتـلقيحها. والمكروس: المراهق من الشباب غير المتزوج يقع تحت طائلة الْــحَرِّ الصيفي، فيرغب في الزواج.
وكما عبروا في أمثالهم وأقوالهم عن تأثير الحر في المراهق الذكر عبروا عن الأنثى، ورأوا أن رغبتها الجنسية تتقدم موعدها في عمرها، وعلامتها قولهم:
(كي تنور الدفلة تهيج الطفلة) أي تزداد رغبتها الجنسية. وعليه فلا بد من مواجهة ذلك بالحذر الشديد قالت العامة: (احْمَاتْ القَايْلَة واقْرَاصْ اللَّبَن، واللِّي عنده طُفْلَة ايْدِيرْ لها الرّْسَنْ).
احْمَاتْ: سخنت واشتد حرها، القايلة: وقت القَيْلُولَة؛ حين يلجأ الناس إلى منازلهم بحثا عن الجو الندي الرطب، مما يؤدي إلى قلة الحركة خارج المنازل. وهي فرصة المراهقين في الريف والجبال وفي المدينة على السواء. واقْراص: صار حامضا من شدة الحر. طفـلة: المراد صبية مراهقة وتبدأ عند بعضهم من عمر تسع سنوات، يطلق عليها كلمة طفلة: وقد تطلق على المرأة مطلقا صغيرة أو كبيرة إلى أن تصير عجوزا.
الرَّسْن: الحبل تقاد به الدابة، أو ما كان بالمنخر من الزمام. والمعنى المراد: أن يتولى ولي أمرها مراقبتها في هذا الظرف المناخي.
فشدة الحر وحموضة اللبن يؤثران في البنت المراهقة… وما يزال اعتقاد بعضهم بذلك إلى يومنا هذا. والمثل في واحدة من دلالاته المتعددة يشير إلى معاش الإنسان في فصل الصيف الذي يأتي بعد فصل الإخصاب (الربيع) من وفرة الألبان والأجبان وزيادتها عن حاجة الإنسان، مما يعد مظهرا للرخاء وسعة العيش، ولا يوجد فلاح دون أن تكون له بعض المواشي التي يستفيد من لبنها وأقلها عنزات يضمن بها (مرق الكُسْكُس). ومن عادة الجزائريين في الأرياف والجبال والقرى وحتى في المدن أن وجبة العشاء تكون من (الكُسْكُس)، ونادرا ما يكون وجبة نهارية، إلا ما كان في المناسبات المختلفة. ومصطلح (الكسكس) أمازيغي من قولهم المرأة تكسكس تفتل/تبرم الدقيق ليصبح حبيبات رقيقة نوضع في الإناء الذي ينضجها (الكَسْكَاسْ) وهو من تسمية الشيء بسببه.
أما التغيرات الجوية التي تحدث بين الحين والآخر فقالوا فيها: (هَيْف، هَيْف كي امْطَرْ الصَّيْف)
الهيف: المراد الهلاك؛ أي هلاكٌ كهلاكِ مطر الصيف، ذلك أن أمطار الصيف ليست دائمة ولكنها عابرة (مازن)، ومتى ما كانت كذلك فإنها تكون قوية تَــنْــجَرُّ عنها السيول التي تجرف الهشيم فلا تُبْقِي للحيوانات ما تأكله. هذا بالنسبة للأمطار. أما بالنسبة للرياح فإنها تكون حارة محملة بالغبار، جاء في القاموس المحيط (الهيف) ريح حارة، وعندنا في الجزائر هي المسماة بالشَّهيلي. وقد تكون جملة دعاء على إنسان آخر ليصاب بالهيف/الهلاك.
فالمطر الذي يسقط في فصل الصيف مضر بالمغروسات التي لم تجن، وبالهشيم المتبقي في الحقول، (شَرُّ السَّامَّة ولا غَبْ الليالي). شر: المراد هنا الجوع، وفي جهات عديدة من الجزائر تعني كلمة الشَّـر: الجوع.
والجزائريون يؤرخون لسنوات الحرب العالمية الأولى والثانية بـ (الشَّرْ) فيقولون (عام الشر) من إطلاق المفرد وإرادة الجمع، أي سنوات الشرور الحرب العالمية الأولى والثانية التي فرضت فيها فرنسا على أبنائنا الانخراط في حروبها ظلما وعدوانا للدفاع عنها، فكانوا وقُودَ مدافعها في الحروب التي خاضتها، بينما خيرات أرضنا لأبنائها في فرنسا، فعرف الجزائريون أسوأ فترة في حياتهم من الجوع و(مرض التِّيفُوسْ والطاعون) وبلغ بهم الجوع درجة أكلوا فيها عروق النباتات وما يعرف بعروق (التَّالْغُودَة) في كثير من الأماكن ، وكذا الزواحف..
السَّامة: مدتها أربعون يوما، وهي رياح حارة محملة بالأتربة، لها تأثيرها على الضغط الذي يحدث في الجو فتقل الحركة، والرياح التي تهب فيها يطلق عليها: السِّيرُوكُو أو (السهيلي/الشّْهِيلِي)، نسبة إلى (سهيل) النجم المعروف في السماء قلبت السين شينا. وكلمة السيريكو (Siroco أو SIROCCO) شِيرُخُو؛ كلمة إيطالية مأخوذة من العربية، بمعنى شَرْقِي؛ لأن هذه الرياح صحراوية شرقية (وهي تقابل بالضد عدد ليالي الشتاء).
والسامة: فترة مدتها أربعون يوما، ستة وثلاثون منها التي هي آخر أيام الصيف والأربعة الباقية من الأسبوع الأول من فصل الخريف. وفي السامة يشتد الحر لدرجة يصعب على الإنسان أن يبقى خارج بيته أثناء فترة الضحى. وفيها تجوع الماشية بسب عدم تحملها البقاء طويلا في الحقول، ولأن الأمطار التي تسقط قبلها أو في بدايتها أو خلالها، لا تدوم ولكن سُيُولَـــهَا تَجْرِف ما تبقى من هشيم الحصاد في الحقول كما ذكرت سابقا.
الحلقة القادمة: فصل الخريف
أ . د . محمد عيلان
ailafolk@hotmail.com
كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية
جامعة باجي مختار ــ عناب