على بصيرة

الحرب، والضرب، والكرب في بلاد العُرْب/ د. عبد الرزاق قسوم

معاناة أمتنا من هذا الثلاثي المدنس، هو آفة المرض المزمن الذي أصاب بلاد العُرْب منذ أمد طويل، ولم نجد له دواء ناجعاً.

فهل من نِطس حكيم، يشخص لي أسباب داء أمتي، ويصف لي الدواء الشافي الذي يخلصها من آلامها، ويقضي على أسقامها، ويبعثها في رحلة جديدة لتحقيق آمالها.

إن داء بلاد العُرب، داء أضر بها وأطاح، وأثخن في أجزائها الجراح، وقضى فيها على كل بوادر النجاح، وطمس في معالمها كل مظاهر الصلاح والإصلاح.

أريد عالمِاً بارعاً في علم اجتماع الشعوب، وسياسياً ضالعاً، يضع أيدينا على بواطن الجرح في أمتنا، فيعلل لي أسباب ما يجري بين الإخوة الأعداء في ليبيا الذين يتقاتلون، على غير هدى، ويريقون دماء بعضهم، ويبددون أموال بلدهم سدى.

هل تعاني ليبيا من تعدد الأعراق والطوائف، وكثرة المذاهب والخوالف؟ وهل في ليبيا أزمة بطالة وعطالة، وهي تنام على الكنوز والطنافس دون أي منافس؟

إنه داء الحكم، بلا استعداد، وشهية التحكم في المال والعتاد، حتى ولو أدى إلى بيع ليبيا، شعباً، وبناية في المزاد.

فمن ينتقم للضحايا من خيرة الشباب الذين يقتلون بالعشرات في شوارع بنغازي، دون جرم ارتكبوه، أو عدوان اقترفوه، وبلا مساءلة أو محاكمة؟ فكيف رخس الدم الليبي إلى هذا المستوى من الرخس؟ كيف صار ابن ليبيا يسام بهذا الثمن البخس؟

يحدث كل هذا، وأمة العرب، والمسلمين ودعاة الإنسانية المزعومة، كلهم يتفرجون، ومنهم الشامتون، وفيهم المتواطئون والمحرضون.

ألا تباً لزمن، ذل فيه العزيز، وعز فيه الذليل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وهل أتاكم ما يحدث في اليمن الذي أخنى عليه الزمن، فمن يحكم فيه من؟ ومن يقتل فيه من؟

إنهم إخوة متشاكسون، يقاتلون بالنيابة عمن هم، المخرجون، وفي الإرادة اليمنية متحكمون، وللمواطن اليمني المستضعف بائعون{لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ}[سورة التوبة/ الآية 10].

وهل فقد اليمن، من بين أبنائه أحراراً يذودون عنه، فيدفعون عنه الهول والويل، ويحمونه من الحرب والضرب والكرب الذي جاءهم من الشرق والغرب؟

أي جرم ارتكبه اليمنيون، حتى يسلط عليهم هذا الويل، ويل القتل والموت البطيء، الذي جاءهم من كل مكان، نهاراً جهاراً، وشملهم كباراً وصغاراً؟

أليس منهم رجل رشيد، يدفع عنهم هذا الوباء المتعدد الأنواع، الغبي البليد، ويوقظهم من نوم الموت الذي أصاب فيهم الوالد والوليد؟

إن محنة اليمن، لون آخر من الجرح النازف، شأنه شأن جرح ليبيا، وليس بين البلدين من حدود، أو سدود، أو أزمة وجود.

ولنول وجوهنا، نحو سوريا، والعراق، ومصر، وتونس، ففي كل قطر من أقطار العروبة الهول الذي يشيب منه الولدان.

فقد تعددت ألوان الحرب، والضرب، والكرب في جميع بلدان العرب أوطاني، وكل مواطن فيها، يعاني ما يعاني.

فمن لم يقتل بالصواريخ، والقذائف والطائرات، قتل بأوبئة الجوع، والبرد، والكوليرا، وأخطر الآفات.

وهناك الآفات الأخطر الأخرى، كتزييف الإرادات، وتكميم الأفواه، ومصادرة الحريات، والزج بالمخالفين من المواطنين والعلماء، والدعاة، في غياهب السجون المظلمة، وأقسى الزنزانات.

في بلادي العربية، فقد الإنسان أبسط قواعد الوجود الإنساني، فضاعت فيه ملامح الآدمية، وانمحت منه حتى خصائص البهيمية.

لقد طال ليل المعاناة في أقطار أمتنا، وضاع من عينيها بصيص الأمل، فتحولت إلى بهائم أعوزها النبت كما يقول الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي:

يا سائلاً عنا ببغداد إننا          بهائم في بغداد أعوزها النبت

ها نحن نبعث، مع هذه الكائنات البشرية، نداء استغاثة، أن أدركونا، أغيثونا، فإن القوم قد سحقونا، ومحقونا!

أما آن، لبعض العقلاء في أمتنا أن يوحدوا صفوفهم، ضد الظَّلَمة، والطغاة، والمستبدين، فقد طفح الكيل، ولم يبق، من معنى للحياة في بلداننا أي معنى إلا معنى الليل والويل.

لقد ضاعت في بلادنا العربية -فضلاً عن معاني القيم الإنسانية النبيلة، كالحياة، والكرامة، والحرية، والمواطنة- ضاعت حتى معاني الأدبية والبهيمية.

فالأسلحة مسلطة على رقاب الجميع، وجزمة الحاكم، تدوس إرادة الجميع، ولا منقذ للضحايا من بطش العابثين بحرية الشعوب وإرادتها، إلا رب الجميع.

إننا قوم نؤمن بأنه مهما ادلهم المصاب، وعسعس الليل، فلابد للصبح أن يتنفس، ولابد للظلم أن ينمحي، ولابد للقيد أن ينكسر.

فيا آل القدس، أيها المرابطون في ساحاته والمرابطات!

ويا آل ليبيا، واليمن، ومصر، وسوريا، والعراق، وباقي أقطارنا المنكوبة، صبراً! صبراً! فإن مصيركم الانعتاق، وزوال النفاق والشقاق، وعودة الأمن والأمان والإيمان والوفاق، وما ظاهرة الحرب، والضرب، والكرب، إلا فاصلة في جملة غير مفيدة ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ[سورة الشعراء/ الآية 227].

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com