قطع المرأة للصلاة..بين البخاري ومسلم/ محمد عبد النبي
لقد قرّر الأئمة المحدثون أن الثقة المكثر في الرواية لا يضيره أن يخطئ في بعض ما رواه، ولا يزيحه عن وثاقته أن يتفرّد عن أقرانه الثقات، أو أن يخالفهم في جملة من الأحاديث، ويمكن القول -قياسا على ذلك- أن أصحاب المصنفات -الذين التزموا إخراج الصحيح- لا يضيرهم أن يُناقَشوا في تخلّف بعض هذه الشروط في بعض الأحاديث التي أخرجوها، وأن يناقِش المختصون هذه المسائل في دوائر الاختصاص أولى وأهم من أن يُترك الأمر لأناس تلفت أنظارهم ثغرة هنا أو هناك، ليقيموا حولها جدلا، يكون الغرض منه أحيانا النيلَ من قواعدِ النقد الحديثي، التي يتفق الكثير من العقلاء على دقتها، وعلى تحقيق الأهداف التي أُنشئت من أجلها.
أخرج الإمام مسلم (2/1021) عن أبي الزبير عن جابر “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة، فأتى امرأته زينب، وهي تمعس منيئة لها، فقضى حاجته، ثم خرج إلى أصحابه، فقال: إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله، فإن ذلك يردّ ما في نفسه”.
وأخرجه أيضا -في نفس الموضع- عن أبي الزبير قال: قال جابر: “سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أحدكم أعجبته المرأة فوقعت في قلبه، فليعمد إلى امرأته فليواقعها، فإن ذلك يردّ ما في نفسه”.
وأخرج الحديث من طريق أبي الزبير عن جابر-بالرواية الأولى-أبو داود (2/246) والنسائي في الكبرى (8/235) والترمذي (3/456) وابن حبان (12/384) وأحمد(22/407) وغيرهم، لكن لم يخرجه الإمام البخاري !
حين يقرأ أحدنا هذا الحديث – مع حديث مسلم الآخر(1/365):” يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب..” وفي رواية أخرى عند مسلم (1/365):”..الكلب الأسود شيطان”.-: تقفز إلى ذهنه المقارنة بين هذه الأصناف الثلاثة، ويستحضر عندها قول المولى تبارك وتعالى في كتابه الكريم:{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ..}.
وقد أخرج أبو داود في سننه (2/33) عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم:” إذا صلى أحدكم إلى غير سترة فإنه يقطع صلاته الحمار، والخنزير، واليهودي، والمجوسي، والمرأة”. صحيح أنهم ضعّفوا الحديث مرفوعا، غير أن مجرّد الاقتران بين ما ذُكر-في سياق واحد- مع ما أُخرِج في مسلم وغيره يعطي للقارئ انطباعا غير محمود.
وما أعظم السيدة عائشة رضوان الله تعالى عنها وهي تقول-وقد ذُكر عندها الحديث-:”.. لقد جعلتمونا كلابا– وفي رواية ثانية: “شبهتمونا بالحمر والكلاب”– لقد رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، وإني لبينه وبين القبلة، وأنا مضطجعة على السرير…”(صحيح البخاري (1/ 108).
وساق البخاري في نفس الموضع حديث ابن أخي ابن شهاب أنه سأل عمه عن الصلاة: يقطعها شيء؟ فقال: لا يقطعها شيء، أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم فيصلي من الليل، وإني لمعترضة بينه وبين القبلة على فراش أهله”.
فالإمام البخاري لم يُفرد حديث الكلب والحمار والمرأة بتخريج، إنما ساق القول ليستنكره على لسان السيدة عائشة، وأما مسلم فأخرج أحاديث القطع -بما ذُكر- أولا، ثم أتبعها بأحاديث أن الصلاة لا يقطعها شيء، وباستنكار السيدة عائشة.
والذي ينبغي لفت النظر إليه هو أن البخاري نصّ على الملمح المقاصدي، من خلال سوق قول السيدة عائشة مرتين، وكذلك فعل الإمام مسلم، والفرق بين صنيعهما-فيما يبدو لي- هو أن مسلما يُثبت المعنيين ما دام قد صحّ بهما عنده إسناد، وأما البخاري فيبدو أن شرطه في صحيحه مرتبط بالملمح المُشار إليه.
وقد أخرج الترمذي حديث ابن عباس:” كنت رديف الفضل على أتان، فجئنا والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه بمنى، قال: فنزلنا عنها فوصلنا الصف، فمرّت بين أيديهم، فلم تقطع صلاتهم”. ثم قال الترمذي:” وفي الباب عن عائشة والفضل بن عباس وابن عمر، وحديث ابن عباس حديث حسن صحيح، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بعدهم من التابعين، قالوا: لا يقطع الصلاة شيء، وبه يقول سفيان والشافعي”.
وأورد الترمذي بعد ذلك حديث القطع وعقّب بالقول:”..وقد ذهب بعض أهل العلم إليه، قالوا: يقطع الصلاة الحمار والمرأة والكلب الأسود، قال أحمد: الذي لا أشك فيه أن الكلب الأسود يقطع الصلاة، وفي نفسي من الحمار والمرأة شيء..”!