وَعَادَ الحجيج
د. يوسف جمعة سلامة*/
بدأ ضيوف الرحمن بالعودة إلى بلادهم بعد أدائهم لفريضة الحج، حيث وَفَّقهم الله سبحانه وتعالى لِحَجِّ بيته الحرام، والطّواف بالبيت العتيق، والوقوف بعرفة، والصلاة في المُزدلفة، والمَبيت بمنى، كما اكْتَحَلت عيونهم برؤية الكعبة المُشرفة، وزيارة مسجد الحبيب – صلّى الله عليه وسلّم -، والسلام عليه – صلّى الله عليه وسلّم – وعلى صَاحِبيه الكريمين أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما-، فاشكروا الله أيها الحُجّاج على ما وَفَّقكم الله فيه من الأعمال الصالحات.
وبهذه المناسبة المباركة يُسعدنا أن نتقدّم من هذا الرَّكْب الإيماني من الحجاج الكرام، بأصدق التَّهاني والتَّبريكات مُبَشِّرينهم بقول رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم –: (مَن حَجَّ فَلَم يَرفُث ولَم يَفسُق رَجَع كَيَوم ولَدَتهُ أُمُّهُ)، وقوله – صلّى الله عليه وسلّم- أيضا: (العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الجَنَّةَ).
أخي الحاج: لقد أَدَّيْتَ بفضل الله سبحانه وتعالى فريضة الحج، وَعُدتَ سالماً والحمد لله إلى وطنك، وبهذه المناسبة فإننا نسأل الله تعالى للحجاج جميعاً حَجّاً مبروراً وسعياً مشكوراً وذنباً مغفوراً، تقبّل الله مِنَّا ومنكم الطّاعات، وَيُسْعدنا أن نُذَكِّر الحجاج الكرام ببعض النّصائح والتَوْجيهات، منها:
شكر الله على نعمه
لقد تحدّث القرآن الكريم عن فضيلة الشُّكْر في عشرات الآيات، كما وذكرت الأحاديث النبوية الشريفة أنّ رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – كان الأُسْوة الحَسَنة والقُدْوة الصَالحة في الشّكر لخالقه عزَّ وجلَّ، فقد قام – صلّى الله عليه وسلّم – الليل مُصَلِّياً وداعياً حتى تَوَرَّمت قَدَماه، وعندما سُئل – صلّى الله عليه وسلّم- لِمَ كُلّ ذلك يا رسول الله وقد غَفَرَ الله لَكَ ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟ فكان جوابه -عليه الصلاة والسلام-: «أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا»، ومن المعلوم أنّ الله عزَّ وجلَّ قد وَعَد الشَّاكرين بالمزيد من نِعَمِهِ وخيره وعطائه، فقال سبحانه وتعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}.
لذلك يجب عليك أخي الحاج أَنْ تَشْكر الله على نِعَمِه العظيمة التي لا تُعَدّ ولا تُحصى ، ومنها: أنْ وَفَّقك لأداء فريضة الحج، حيث أَدّيتَ شعيرة الحج وَعُدْتَ سالماً غانماً بفضل الله عزَّ وجلَّ.
الالتزام بطاعة الله ورسوله
أخي الحاج: اعْلم أنّ طاعة الله ورسوله، والسّير على هَدْي كتاب ربّنا سبحانه وتعالى واتّباع سُنَّة نبينا محمد – صلّى الله عليه وسلّم – من الطُّرُق المُوصِلة إلى الجَنّة إن شاء الله، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا)، كما جاء في الحديث الشريف عن أبي هريرة- رضي الله عنه – أَنَّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ أَبَى، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ : مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى).
الحرص على أداء العبادات وأعمال الخير
احرص أخي الحاج على الالتزام بالعبادات من صلاة وصيام وزكاة وغير ذلك من أبواب الخير المُتَعدِّدة، لأنّها سبيل إلى دخول الجنة إن شاء الله، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}، كما جاء في الحديث الشريف أنَّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ)، وقوله – صلّى الله عليه وسلّم- أيضاً: (مَنْ صَلَّى البَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ).
الإكثار من النوافل
المُحافظة على النّوافل من أعظم أسباب قُرْب العبد إلى ربه تبارك وتعالى، فينال بذلك مقاماً عظيماً، كما جاء في الحديث الشريف: عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الأَسْلَمِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: (كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: سَلْ فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ)، وعن أُمِّ حَبِيبَةَ -رضي الله عنها- قالت: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يَقُولُ: (مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ).
وجوب الاستمرار في الطّاعات
أخي الحاج: مِنْ فضل الله عليك خلال فترة الحج أنْ وَفَّقك لفعل الكثير من الطّاعات، وأداء الصلاة في أوقاتها جماعة والحمد لله، كما كُنتَ بِفَضْل الله واسع الصّدر، لَيِّنَ الجَانب، كريمَ الخُلُق مع زملائك، وكنتَ سَخِياًّ كريماً، فالواجب عليك أن تُواظب على طاعة الله ورسوله في كلّ وقت، فإِنّ الله يُحِبّ من العمل أدومه وإنْ قلَّ، فإياك أخي الحاج أَنْ تَنْقطع عن العبادة بعد أدائك لفريضة الحج، وعليك أَنْ تَعلَم بأنّ الطاعات والمُسَارعة فيها ليست مَقْصُورة على موسم الحج فحسب، بل عامة في جميع الأوقات، لذلك يجب عليك أَنْ تحرص على تلاوة القرآن الكريم، وفعل الخيرات، وأداء الصّلاة جماعة في المسجد، والاستمرار في هذه الطّاعات والقُربات بعد الحج.
حضور مجالس الذكر
أخي الحاج: احرص على حضور مجالس الذّكر والعلم لقول الله سبحانه وتعالى:{فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}.
ونسوق هذا الحديث الشريف الذي يُبَيِّن فضل مجالس الذّكر، فقد روى أبو هريرة – رضي الله عنه – أنّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – قال: (إِنَّ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَلائِكَةً سَيَّارَةً ،فُضُلاً يَتَتَبَّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ ،فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ قَعَدُوا مَعَهُمْ، وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَجْنِحَتِهِمْ ،حَتَّى يَمْلَئُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ: فَيَسْأَلُهُم اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ فِي الأَرْضِ، يُسَبِّحُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيُهَلِّلُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيَسْأَلُونَكَ، قَالَ: وَمَاذَا يَسْأَلُونِي؟ قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ، قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: لا، أَيْ رَبِّ، قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: وَيَسْتَجِيرُونَكَ، قَالَ: وَمِمَّ يَسْتَجِيرُونَنِي؟ قَالُوا: مِنْ نَارِكَ ،يَا رَبِّ! قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: لا، قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: وَيَسْتَغْفِرُونَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ ، فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا، وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا، قَالَ: فَيَقُولُونَ: رَبِّ! فِيهِمْ فُلانٌ، عَبْدٌ خَطَّاءٌ، إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ، قَالَ: فَيَقُولُ: وَلَهُ غَفَرْتُ، هُم الْقَوْمُ لا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ).
في هذا الحديث الشريف يُبين الرسول- صلّى الله عليه وسلّم – أهمية مجالس الذكر وفضلها، وأنّها خَيْر المجالس لِمَا فيها من ذِكْرٍ لله سبحانه وتعالى وتسبيحه وتوبة صادقة إليه، وفي نهاية الحديث السابق تقول الملائكة: يا ربّ: (ويستغفرونك)، فَمَا أَجْمل الاستغفار وأَفْضله، لذلك قال -عليه الصلاة والسلام-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَيه فِي اليَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ)، فيأتي الجواب الإلهي شافياً، والفضل عظيماً، (قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا، وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا)، ثم يظهر كرم الله العظيم وفضله الكبير الذي لا ينقطع كما ورد في آخر الحديث : «وَلَهُ –أي العبد الخَطَّاء- غَفَرْتُ»، ففضل الله كبير كما جاء في الحديث القُدسي: «… يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً».
أخي الحاج : إِنَّ الحجّ المبرور هو المقبول الذي رَاعَى فيه صاحبه شُروط صِحَّة العمل وشروط قبوله، ومن علاماته أَنْ يعود الحاج أفضل مِمّا كان عليه، و أنْ يتجنَّب المعاصي والآثام، وأَنْ يفتح صفحة جديدة مع الله سبحانه وتعالى، فعليك أخي الحاج أنْ تُحافظ على صَحِيفتك البيضاء، فلا تُسَوِّدها بالمعاصي والذنوب بعد أَنْ أكرمكَ الله بفضله وكَرَّمكَ بالحجّ المبرور.
نسأل الله تعالى للحجاج الكرام حجاً مبروراً، وسعياً مشكوراً، وذنباً مغفوراً.
تقبّل الله منا ومنكم الطاعات
وصلّى الله على سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
* خطيب المسـجد الأقصى المبـارك
وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق
www.yousefsalama.com