فقهاء ومحدّثون في القرن العشرين
عبد العزيز كحيل/
ما بقيت شريعة الله غضة طرية تواجه تغيّر الأزمنة والبلدان والأحوال إلا بفضل بعث الله لعلماء يجتهدون ويجددون، لا يخلو منهم عصر ولا مصر، ولعلّ أبرز من تشرئب إليهم الأعناق ويشغلون ساحة العلم الشرعي قبل غيرهم هم الفقهاء والمحدثون، هؤلاء يحققون السنة النبوية ويغوصون في متونها – بعد أن انتهت قضية الأسانيد ولم يعد هناك كبير نفع في الاشتغال بها – وأولئك يؤصلون وينزلون الأحاديث على الوقائع ويواجهون ما يحدث للناس من أحداث تحتاج إلى الفتوى وبيان حكم الشرع…ولم يخلُ بلد في العالم الإسلامي من فقهاء ومحدثين طيلة القرون، لكن عندما استحوذت الفرقة الوهابية على المساجد وامتلكت بفضل البترودولار آلاف المواقع الإلكترونية أشاعت في الناس أن علماء القرن العشرين هم على وجه التحديد الشيوخ ابن باز وابن عثيمين والألباني، وكرر أتباعها هذه المقولة على مدى سنوات حتى صدقها كثير من المسلمين وصاروا يرددونها ترديد الواثق وينافحون عنها ويتعصبون لهؤلاء الشيوخ ويعادون (أجل، يعادون) باقي علماء الأمة، وهذه المقولة أبعد شيء عن الحقيقة، فالقرن العشرون (أو الرابع عشر الهجري) عرف أسماء لامعة وقامات كبرى في مجال الفقه والحديث من الهند إلى موريتانيا مرورا بالشام واليمن وصولا إلى باقي أقطار المغرب العربي، بعضهم بلغ درجة الاجتهاد (على الأقل الاجتهاد الجزئي أو الموضوعي، أي في مسائل معينة وقضايا مستجدة)، على رأس هؤلاء المجتهدين في الفقه: علي الخفيف، محمد محمد المدني، محمد أبو زهرة ومحمود شلتوت (من مصر)، ومحمد الطاهر بن عاشور(من تونس)، فقد خرجوا عن التقليد واشتغلوا بالفقه المقارن وتناولوا الموضوعات الشرعية بنظرة معاصرة، فجددوا فهم النصوص وأحسنوا تنزيلها على الواقع، وسار على منوالهم تلاميذهم النجباء أمثال مصطفى الزرقاء، انتهاء بالشيخ القرضاوي الذي تربع على عرش الفقه والفتوى والتجديد على مستوى العالم…هؤلاء عمدوا إلى النصوص الشرعية وجددوا فيها النظر، وأعملوا العقل، وكانت لهم عينٌ على القرآن والسنة وعينٌ على الواقع فأحسنوا الفهم والتنزيل، ولا بد هنا من توضيح هذه الحقيقة الناصعة التي تمّ تغييبها عن المسلمين: شيوخ السعودية المعروفون بالفقه والفتوى هم حنابلة – على رأسهم ابن باز وابن عثيمين وأضرابهما – لا يخرجون عن الفقه الحنبلي، وهو فقه محترم مثل تراث المذاهب السنية الأخرى، المشكلة أنهم يسوقونه على أنه هو القرآن والسنة «بفهم السلف الصالح»، وأن فهمهم وفهم مدرستهم هو وحده الحق الذي ليس بعده إلا الباطل، لأنه هو وحده فهم السلف الصالح، وهذا ما يمكن أن يتأكد منه كل من يقرأ كتبهم وفتاويهم إلى اليوم…إلى درجة انك لا تجدهم يستشهدون بعالم خارج مدرستهم، وقد حدث لي شيء طريف معهم، فقد كنت في سنوات ماضية أتعامل مع مؤسسة علمية «معتدلة» في السعودية، تنشر لي كتاباتي، قدمت لها مرة بحثا أفردته لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي فاقترحوا عليّ أن استبدل به عالما آخر يكون من «أهل السنة والجماعة» !!!…ورفضتُ بطبيعة الحال.
يطول ذكر الفقهاء المحققين المدققين في القرن العشرين لذلك اقتصرت على ذكر من تعلمنا من علمائنا الثقات انهم بلغوا درجة الاجتهاد.
أما الشيخ الألباني فميدان اشتغاله هو الحديث وليس الفقه.
هذا عن الفقه والفقهاء، أما علماء الحديث فإن دور الفحول منهم تجاوز علم الأسانيد إلى المتون تحقيقا وشرحا وكشفا للعلل الخفية وتأويلا لمختلف الحديث، وهم أيضا قد تواجدوا – في القرن العشرين – في أنحاء العالم الإسلامي، مع كثافة ملحوظة في الشام والهند…هل يعود ذلك لقلة اهتمام الزيتونة – وحتى الأزهر إلى حد ما – بعلم الحديث؟
هنا أيضا تكمن مغالطة كبرى شاعت حتى أصبحث كأنها من كبرى اليقينيات العلمية، فالمتداول عند الشباب أن أكبر محدث في القرن العشرين هو الشيخ الألباني، وأنا أعذرهم لأن هذا الذي تم تلقينه لهم، أنا عندما أتناول المحدثين المعاصرين لا أقصد من يصحح الحديث ويضعفه، فهذا جهد ضائع لأن مدار ذلك على السند – أي الرواة – وقد ماتوا منذ قرون فلا يتغير من حالهم شيء، وقد جزم الإمام ابن الصلاح الذي انتهى إليه عليه المصطلح، وصاحب المقدمة الشهيرة في علم الحديث إلى أنه لم يبق مجال للاجتهاد في السند، قال هذا في القرن السابع الهجري، فالراوي الذي درس المختصون أحواله طولا وعرضا وعمقا، وحكموا بتعديله لا معنى لتجريحه في الزمن المتاخر ، وكذا من حكموا بتجريحه كيف يمكن تعديله؟، وإنما المقصود أولئك المتخصصين في علم الحديث الذين أحيوا السنة النبوية في القرن العشرين وجددوا معالمها، فثقفوا العقول وأقنعوا الأذهان وبصّروا الأمة، قاموا بتحقيق أمهات الكتب الحديثية وتهذيبها، وردوا الشبهات وفنّدوا حجج منكري السنة، وأخرجوا المراجع الكبرى في ثوب قشيب أتاح لطلبة العلم الاستفادة منها…يأتي على رأس هؤلاء محدث العصر الأكبر الشيخ أحمد شاكر من مصر، وجماعة محدثي الشام (الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، د. نورالدين عتر، الشيخان عبد القادر وشعيب الأرناؤوط، ومحمد عوامة)، وكذلك المدرسة الحديثية في الهند على رأسها الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي والشيخ محمد زكريا الكاندهلوي…أما الشيخ الألباني فقد اشتغل في الغالب الأعم بالتصحيح والتضعيف، وحين انبهر الشباب بكتب الشيخ الألباني إلى درجة التعصب ردّ كثير من المحدّثين المعاصرين صنيعه هذا فقالوا إذا ضعّف مثلا هل نعتمد على تضعيف السابقين أم تضعيفه هو؟ ما الجديد الذي جاء به؟ وإذا قال (وهو يكْثر من هذا): حديث صحيح رواه البخاري، فهل المعتمد تصحيحه هو أو تصحيح البخاري؟
وقد خدم الشيخ القرضاوي بارك الله في عمره السنة خدمة موضوعية بأربعة كتب أهمها: المدخل لدراسة السنة النبوية – كيف نتعامل مع السنة النبوية – السنة مصدرا للمعرفة والحضارة، ولا ننسى كتاب «السنة مكانتها في التشريع» للدكتور مصطفى السباعي، وغيرها كثير جدا في المشرق والمغرب.
وما زال ميدان السنة والفقه في حاجة إلى مزيد من الاجتهاد، ينتظر طلبة أذكياء ماهرين يخوضون هذه الحياض بدل البقاء في دائرة الانبهار بالقديم وترديد مقولاته…المطلوب التمسك بالقديم وتجديده.
وبدل ترديد المقولات الجاهزة أنصحكم أن تقرؤوا أنتم وتتأكدوا وتدركوا الفرق.