الذكرى الستـون: من استقلال الأرض إلى استقلال القرار

ماذا جنينا من الاستقلال بعد ستين سنة؟؟

أ. د. أحمد محمود عيساوي/

كان الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه جالسا يوما بين أصحابه فسألهم هذا السؤال الاستراتيجي الذي وجب على كل حاكم يخاف على مصيره مع الله أن يسأله لنفسه مرارا وتكرارا: (أَمَلِكٌ أنا أم خليفة؟) فأجابه الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضي الله عنه بكل شجاعة وجرأة وصراحة واستقامة ووضوح قائلا: (إن كنت تجمع المال بحقه وتصرفه في حقه فأنت خليفة لا ملك. وإن كنت تجمعه بحقه أو بغير حقه وتصرفه في حقه أو في غير حقه فأنت ملك لا خليفة)، فأحنى عمر رضي الله عنه رأسه نحو الأرض ذليلا كسيرا وبكى وأجهش رضي الله عنه حتى احّمرتْ عيناه واخضلت لحيته بالدموع، مطمئنا أنه لحد تلك اللحظة ما يزال رجل العدل والاستقامة والتواضع والعفة في عيون أصحابه ومحكوميه، وهذا ما يحتاجه الحاكم الصادق من مستشاريه ونوابه المحترمين، لا المنافقين المخادعين الذين يحيطون به ويخنقونه عن سماع ورؤية الحق، ويحجزونه عن الانصياع إليه.
وانطلاقا من هذا النص المرجعي في الشورى والصدق والعدل والمساواة والحكامة السوية والرشاد الحكومي الواجب اتباعه.. أسمح لنفسي بالكتابة الصادقة عن واقعنا الجزائري البئيس بعد ستين سنة من الاستقلال، وأسأل نفسي وجيلي ومن حباه الله قلبا صافيا عذبا، وعقلا سليما سويا، ولسانا شاهدا قويما، ونفسا صادقة شجاعة أبيّة.. كسيدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه وأقول للنظام الذي حكم الجزائر من سنة 1962م إلى اليوم، هل تسمحون لنا أن نتساءل وإياكم بصدق وموضوعية وواقعية وتناصح ودون نفاق أو تزلف أو تزوير أو تضليل.. متحاكمين إلى معايير بناء الأمم الراشدة، وإلى موازين القسطاس الحكيم في صناعة الكيانات وصياغة المؤسسات وبناء الهيئات الحكومية العادلة وتكوين المجتمعات السوية الراشدة.. بعد ستين سنة من الاستقلال قائلين: ماذا جنينا من الاستقلال بعد ستة عقود؟؟
تعالوا نواجهه بشجاعة وثبات لنجيب عليه وعنه سوية ودون هروب من طرحه، وهو السؤال المفروض طرحه من قبل كل العقول والأقلام الرسمية والشعبية السلطوية والحرة، الموالية والمعارضة.. بعيدا عن كل روح أنانية أو نفعية أو مصلحية أو زبونية أو تضليلية.. يكون فيها العرض والتحليل والنقد والتقييم والتقويم والاحتكام متأسسا ومستندا للمعايير والأصول والقواعد المتعارف عليها عالميا في منظومات المعارف القيمية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والتربوية والتعليمية والتاريخية.. ونسأل أيضا قائلين: ماذا قدمنا لأمتنا؟ وهل بالفعل كنا عند حسن ظنها عندما حكمناها؟ وهل بالفعل حققنا الأهداف التي رسمناها عشية انطلاق مشروع التغيير النوفمبري؟ وهل بالفعل حققنا بعضا مما رسمناه من الأهداف في مشروع التحرير النوفمبري؟ وماذا حققنا على المستويين المادي والسياسي المحلي والعالمي والمعنوي والروحي والقيمي؟؟ وماذا حققنا في مجال الاعتزاز بالأصالة ومقومات الهوية؟؟ وما وصلنا إليه في مجال التنمية الاقتصادية والمالية والعلمية؟؟ وماذا صنعنا للرفع من كرامة الفرد الجزائري الذي وضع آماله العِراض فينا وانتظرنا تحت الشمس والبرد القارس طويلا، وصفق وهتف ونادى بحياتكم وحياة نظامكم العتيد كثيرا؟؟ وأنا واحد من أولئك الأطفال الذين بُحتْ حناجرهم للهتاف والتصفيق والتشجيع بحياة الرئيس الراحل أحمد بن بلة وهواري بومدين والشاذلي بن جديد؟؟
إنها من وجهة نظري جملة من الأسئلة الحتمية الحضور والبروز على ساحة الخطاب السياسي والإعلامي والفكري والديني التخصصي والدعائي والتوجيهي العام مع انتهاء كل عقد زمني يمر بالأمة كما تصنع دوائر القرار لدى الأمم الناهضة. كما يجب أن تُطرح الإجابات على هذه الأسئلة بعيدا عن وسائل التضليل وصحافة التطبيل وخطابات النفاق الحزبي وتصفيقات الصخب الجمعوي والمدني الغشاش.. وغيرها من زمر التطبيل والنفاق.. وإن طرحها اليوم على الصعيد المحلي وفي إطار الحوار الوطني ومبادرة لم الشمل لخير مليون مرة من طرحها عبر الوسائل والوسائط الخارجية.. وأذكر أنني في سنتي 2003 و 2004م بمناسبة مرور نصف قرن على اندلاع الثورة التحريرية وبسبب الظروف القمعية والقهرية التي اتسمت بها مرحلة التيه والضياع العَمِيِّ وحصاد السنين العجاف 1999-2019م اضطررت لنشر مقالي (ماذا بقي من ثورة المليون شهيد بعد نصف قرن؟) في مجلة (العالم) السعودية، و(البلاغ) الكويتية، و(التقوى) اللبنانية (انظر بوابة الملك فهد للبحث)، وكان الأفضل لي ولكل وطني غيور وللنظام الذي انحرف كثيرا عن خط الأصالة والتنمية لو فتح النقاش الجاد حول مستقبل ومصير الجزائر عبر القنوات والفضاءات والوسائل المحلية باعتباره مشكلا وشأنا داخليا لوفر على نفسه وعلينا أيضا مؤونة ومشقة الحراك الشعبي السلمي المبارك.. ولكبح كل محاولات التدخل الاستعماري المتسترة تحت دعاوى (حقوق الإنسان والتعبير وحرية الرأي).. وغيرها من أحابيل وأكاذيب المحور الغربي المتغطرس الكاذب بدعوى الديمقراطية الجوفاء.. وقد حُرِمَ طلابي وقرائي من الاطلاع على الكثير من مقالاتي وأبحاثي المنشورة خارج الوطن وذات الصلة بنقد ومعالجة مشكلات المرحلة القمعية السابقة كونها لم تُوضع في موقعي الشبكي للكلية اعتقادا من تخمين القائمين عليها أنهم يخدمون النظام والسلطة الجزائرية بتكميم وجه الحقيقة والكلمة الصادقة.
وأعتقد أن السلطة الفعلية مدركة اليوم بكل وضوح أهمية طرح مثل هاته التساؤلات المصيرية على الصعيد المحلي المتعلقة بمصير ومستقبل الجزائر في ظل التحولات الدولية العالمية التي دشنتها القوى العظمى الأسيوية الجديدة (روسيا، الصين، الهند، تركيا، إيران، باكستان، ماليزيا، اندونيسيا)، متجاوزة غطرسة وجبروت المحور الغربي المهيمن على دواليب ومحركات الكرة الأرضية بأسرها.. علّ هذه الحركة الإعلامية الانفتاحية التي ستدشنها السلطة تكون بمثابة بادرة تجميع الخطابات الصادقة والصريحة التي تصب في إيجاد أماكن للفاعلين للصادقين في عملية إعادة ترميم خطاب الصدق والنقد الصريح والتقويم والتقييم السليم لجذور الأزمة الجزائرية المستعصية، ومحاولة وضع خارطة طريق حقيقية للخروج من النفق المظلم الذي رسمه لنا ونفذه فينا بقايا عبيد الاستعمار ممن تحكم ومازال يتحكم في دواليب كثيرة من عجلة الحياة الجزائرية البائسة.. وما أكثرهم؟؟
ولنا أن نتساءل بكل تلقائية وموضوعية ومسؤولية وشجاعة.. التساؤلات المصيرية التالية، مستعينين بالإحصاءات التي تقدمها السلطة نفسها عن واقعنا الجزائري المهترىء روحيا وقيميا ومعنويا وأخلاقيا وثقافيا وماديا وتنمويا ومستوى معيشيا وحياتيا أيضا، ولنبدأ بطرح التساؤلات فقط وترك الإجابات للأقلام الشجاعة والسوية والنظيفة الطاهرة تتناوشها عبر حوار حقيقي وجاد وبنّاء ومثمر، وهي في ظني واعتقادي مرتبة وفق النسق الآتي:
1- مسائل الهوية: (الدين، اللغة، التاريخ، الثقافة) ونقول متسائلين: هل بالفعل نجحنا في الحفاظ على مستوى التدين الصافي الفطري الموروث لدى فئات الشعب، وصنا الدين الإسلامي واحترمناه ورجاله والقائمين عليه؟
طبعا أنتم تعرفون الجواب جيدا وخيرا مني، فالدين الإسلامي ورجاله عانوا في مرحلة 1963-1980م كما عاني في العقود الثلاثة الماضية 1990-2022م من جحيم وسموم التيارات السلفية العميَّةِ العلمية والحركية والجهادية والعالمية والإرهابية.. التي عبثت بتدين الجزائريين دون أن تتحسسوا خطورة ومسؤولية الخطاب الوهابي عن كل قطرة دم سالت وتسيل إلى اليوم، وعن كل شذوذ وتدمير مس المجتمع الجزائري ولاسيما الفئات الشبابية منه.. ودون أن تنسوا طبعا دوركم في تحطيم قدر الإمام من خلال عدم تثمين أجره المنخفض إلى اليوم، فهو فقير تجوز فيه الزكاة والصدقات…
والحديث نفسه لا يكاد يختلف عن مكانة اللغة العربية ودورها في سائر المؤسسات الحكومية والسيادية وغيرها، فهي ليست لغة السياسة والسياسيين والأمن والاقتصاد والمال والنقل والطيران.. فهي مازالت لا تحتل مكانتها الريادية في مؤسسات السلطة.
أما الحديث عن أحداث التاريخ الحقيقي ولاسيما فترة الثورة التحريرية وما تلاها.. فالمتخصصون (البكم والعمي والخرس والجبناء) يعلمون أن هذه النسخة التمجيدية المعروضة اليوم غير صحيحة ومليئة بالأكاذيب والتزوير والأباطيل. ومن أجل حماية هذه النسخة المزيفة وضع قانون يحمي المزورين واللصوص والسراقين للتاريخ باسم قانون الحقد والكراهية، فالكثير ممن يُصورون في عيون الناشئة ويملؤون صفحات كتب التاريخ على أنهم أبطال هم ليسوا كذلك البتة، والعكس صحيح، ولعلني أنقل إليكم نصا للأستاذ المترجم الشهير (الصادق سلام) من مقدمته التي وضعها لكتاب (مفاوضات إيفيان في أرشيف الدبلوماسية الفرنسية لموريس فايس وآخرون، طبعة دار عالم الأفكار الجزائر، الطبعة الأولى، 2013م، ص 776 و 777) ما يكشف حقيقة إعدام مهندس مؤتمر الصومام (عبان رمضان) دفع بعض من الجزائريين ثمنها غاليا، إذ يقول عن اتصالات قادة الثورة بالحكومة الفرنسية: ((.. وخلافا للمعتقد السائد، فإن تحويل اتجاه الطائرة التي كانت تقل قادة الثورة الجزائرية بتاريخ 22/10/1956م لم يمنع قط استمرار إجراء الاتصالات. يُشار إلى أن هذه الاستمرارية بحد ذاتها مدينة للمجهودات الدؤوبة التي كان يقوم بها عبان رمضان الذي سبق له أن عبّر عن استعداده للاكتفاء بالحكم الذاتي، وذلك من خلال إرسال بعث به في مارس 1957م إلى (برجيس مونوري- B. Maunoury) الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع في حكومة (غي موليت- G. Mollet). فهذا الرجل الذي كان كثير الإزعاج لرفاقه والذي تمكن من فرض إعطاء الأولوية للخيار السياسي على حساب العسكري من خلال أعمال مؤتمر الصومام، والذي كان قادرا على إبداء كثير من المرونة والاعتدال باختياره وزير الدفاع وقائد الأركان الفرنسي كمحاور أساسي. مما أثار منتقديه الذين عابوا عليه تنازلا كهذا وكذا تحمله مسؤولية هذه المفارقة التي يسعى من ورائها حسب اتهاماتهم بالحصول على موقع “المحاور المقبول”..)).
والناظر في هذا النص وفي غيره سيعرف حقائق وأحداث تاريخية مزيفة، والفرصة اليوم مناسبة بعد مرور ستين سنة عن الاستقلال وقرابة سبعين سنة عن اندلاع الثورة التحريرية من تصحيح النسخة المزورة من تاريخ الثورة التحريرية.. فهذا فرحات عباس يخبر الفرنسيين من أنه يرضى بالحكم من دون الصحراء، وهذا عميروش مسؤول عن مجازر كذا.. وهذا الفصيل مسؤول عن تصفية رموز التيار العربي الإسلامي سنوات 1957م و 1958م.. وعلينا أن نتناول هذه الأحداث بموضوعية في سياقها التاريخي الشامل وفق آليات وأدبيات ومنهجيات البحث التاريخي..
وعلينا أن نتساءل عن واقعنا الجزائري بصدق وبموضوعية عن مدى منفعة الجهاز الإداري الفاسد والمتوحش الذي يُطبق على أعناق الجزائريين ومدى جدواه في عصر المعلوماتية؟؟ وما جدوى تولية المناصب الحساسة اللصوص واٍلأراذل والمنافقين والكذابين.. الذين عبثوا بماضي وحاضر ومستقبل الأمة، واسألوا حال أولئك المسؤولين القابعين في السجون والذين يتلاحقون تباعا إلى غاية كتابة هذه السطور.
وعلينا أن نتساءل عن سياسة السلطة مع المنظومة التربوية المتهالكة منذ فضيحة بكالورية 1992م، ونتساءل أيضا عن سياستها مع الجامعات والبحث العلمي والكفاءات العالية المهاجرة وتولية الأراذل والنكرات رئاسة الجامعات ممن ليست لهم كتاب أو نظرية أو حتى مقالات علمية أو فكرية أو ثقافية؟؟..
كما يجب علينا جميعا أن نتساءل عن ارتفاع نسب الجريمة المنظمة والعابرة للقارات وزيادة نسبة المسجونين وكثرة بناء السجون وتعاطي وتجارة ونقل المخدرات؟؟ ونتساءل عن تأنيث الوظائف والمهن وما يترتب عنه من دمار للمنظومات التي هيمنت عليها المرأة وحُرم منها الرجل؟؟ وعن ملايين العاطلين عن العمل من الطاقات الفعالة؟؟ وما ترتب عنها من ارتفاع نسبة عدد العانسات والعوانس من الرجال؟؟ وزيادة عدد النساء العازبات والمطلقات والمخلوعات؟؟ ونتساءل عن عدد اللقطاء؟؟ وارتفاع نسبة الإجهاض المقدرة بحوالي 10000 عشرة آلاف حالة سنويا؟؟ ونتساءل عن عدد الأميين؟؟ ونتساءل أيضا عن قوة الدينار المالية وقيمة العملة الوطنية وارتفاع نسبة التضخم وغلاء الأسعار.. وغيرها من الأسئلة التي تكشف حالنا أمام العالم، وتصنفنا دائما في ذيل الأمم.. وسنلتقي بعد عقد من الزمن إن كانت في الأعمار بقية لنرى ماذا أضفنا وحققنا؟؟ أللهم اشهد أني بلغت..

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com