في الذكرى 60 لحرق مكتبة جامعة الجزائر
أ / الأخضر رحموني/
07 جوان 1962 يوم لا ينسى في حلقات تاريخ الشعب الجزائري الذي كان يستعد يومها للاحتفال الرسمي باستعادة حريته، بعد احتلال فرنسي غاشم حاول طمس المقومات الوطنية لشخصية الأمة الجزائرية وحضارتها من الوجود، فهذا اليوم يذكرنا بالجريمة النكراء التي اقترفتها الأيادي الآثمة للمنظمة السرية للجيش الفرنسي المشهورة باسم (OAS) والمؤيدة من جماعة من غلاة الفرنسيين الذين كانوا يؤمنون بأن – الجزائر فرنسية – حيث قامت بإحراق مكتبة جامعة الجزائر التي تعد من أقدم وأهم المكتبات في العالم العربي وإفريقيا، لما كانت تحتوي عليه من رصيد ثري وغني وكتب قيمة في مختلف العلوم .
وبمناسبة الذكرى الستين -60- لهذه النكبة في حق العلم والمعرفة، وقد رسمت الجزائر المستقلة هذا اليوم التاريخي كيوم وطني للكتاب والمكتبات، نقف وقفة تذكر لمعرفة الأسباب الرئيسية التي أدت بالمنظمة الإرهابية ( OAS) للقيام بجريمتها الشنيعة في وضح النهار، وبالضبط على الساعة 12.30 زوالا، وقد استنكرتها أغلب الهيآت الثقافية والعلمية في العالم، التي نددت بطريقة الانتقام، وتصفية الحسابات السياسية بانتهاج سياسة الأرض المحروقة . وكذا ما قامت به السلطات الجزائرية لإعادة الحياة إليها بعد سنوات من العمل الدؤوب خدمة للثقافة الإنسانية بعدما تجاوزت الجزائر المستقلة المحنة وما خلفته من حسرة وخسران .
جاءت هذه الجريمة التي تعد عملا إجراميا ضد الإنسانية عشية الاستقلال، وكانت عن طريق تفجير ثلاث قنابل فوسفورية سريعة الالتهاب لضمان انتشار الحريق بسرعة كبيرة، وبعد أيام من توقيع اتفاقية إيفيان بين قادة جبهة التحرير الوطني وممثلي الحكومة الفرنسية في 19 مارس 1962 لوقف إطلاق النار بين جيش جبهة التحرير الوطني والجيش الفرنسي، حيث وقعت سلسلة من المجازر الوحشية، والجرائم النوعية لإحباط معنويات الجزائريين والحيلولة دون تمكينهم من الانطلاقة السريعة في مسيرتهم الجديدة، والتحكم في الشؤون السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية بعد الاستقلال، مع حرمان الجيل الصاعد من شباب الجزائر الاستفادة من المعرفة والعلوم والتنوير.
فقبل توقيف إطلاق النار بأربعة أيام فقط، تم اغتيال الكاتب الجزائري باللغة الفرنسية مولود فرعون صاحب رواية – ابن الفقير- و -الأرض والدم – يوم 15 مارس 1962 بالعاصمة، كما تم تفجير ميناء الجزائر يوم 02 ماي 1962 الذي خلف العديد من الضحايا، حيث سقط فيه 62 شهيدا من عمال الميناء، زيادة على الجرحى الذي تجاوز عددهم 110، مع الخسائر المادية في العتاد والوسائل.
وقد بقيت جامعة الجزائر مغلقة في الفترة التي أعقبت توقيف القتال، نظرا للظروف الأمنية غير المستقرة آنذاك. فكان من السهل على أعضاء منظمة الجيش السري الفرنسي الإرهابية وضع عدة قنابل فوسفورية سريعة الالتهاب بداخل المكتبة بتواطؤ مع بعض الموظفين الفرنسيين العاملين بذات المكتبة .
حيث جاءت جريمة حرق المكتبة بجامعة الجزائر (جامعة ابن يوسف بن خدة الجزائر 1 حاليا) الموروثة عن – الكلية المركزية – القديمة بشارع ديدوش مراد، فالتهمت النيران مئات الألوف من الكتب النادرة، والمخطوطات في مختلف مجالات المعرفة. وقد ظلت ألسنة النيران مشتعلة حتى وصلت إلى مخازن الكتب الأربعة بأكملها بالطابقين الثاني والثالث، فأحرقت قاعة المطالعة، وأتلفت أكثر من 400000 كتاب ومجلد ومخطوطات ووثائق هامة، من مجموع 600000 عنوانا تحتوي عليها المكتبة، وحول هذا الكنز الهام في لمحة من البصر إلى كومة من الرماد، إلى جانب تخريب المكتبة ومخابر العلوم ومدرجين.
وقد نقلت الصحف الفرنسية هذا الخبر المأساوي على صفحاتها الأولى، فكتبت جريدة – فرانس سوار – «ألسنة النار تلتهم المكتبة الجامعية، حيث تحترق 600.000 كتاب»، وشهدت جريدة – لوفيغارو – بالنكبة قائلة : «500.000 كتاب تم حرقها من أرصدة المكتبة الجامعية بالجزائر»، ونفس الخبر نقلته جريدة – لوموند – قائلة : «قرابة 600.000 مجلد ووثيقة كانت طعما لألهبة النار في المكتبة الجامعية بالجزائر.
وقد أسرعت وحدات من الجيش الفرنسي إلى المكتبة من أجل حمايتها من اعتداءات المنظمة السرية، ورغم تدخل رجال المطافئ لإخماد النيران الملتهبة، إلا أن خراطيم المياه المستعملة زادت من هول الفاجعة، وحجم الخسائر، لأنها تسبب في محو الكتابة في المخطوطات، وأتلف جزءا كبيرا من الكتب التي لم تصلها ألسنة الحريق الذي عم المكان، نظرا لطمس معالمها وضياع أجزاء مهمة منها.
وتشكل كتب اللغة الفرنسة أكثر من 90 بالمائة من الكتب التي تتوزع على تخصصات شتى، وفيها كتب مطبوعة من السنوات الأولى للطباعة بالحرف العربي والحرف اللاتيني، وأخرى مخطوطة يعود تاريخها إلى عشرات القرون .
بالإضافة إلى الرسائل والأطروحات الجامعية في مختلف مجالات المعرفة.
وحسب الباحث الأستاذ أحمد بن السائح فإن (مكتبة جامعة الجزائر يعود تاريخ تأسيسها إلى سنة 1880، وارتبط وجودها بإنشاء جامعة الجزائر بموجب قانون 20 ديسمبر 1879 الذي مهد لإنشاء جامعة الجزائر قبل ثلاثين سنة من تأسيسها، وهي غنية بخزائنها العامرة بالكنوز والنفائس التي لا توجد في غيرها، والأصل في إنشائها أن الإستدمار الفرنسي أسسها لأنه كان يظن أنه باق، وأن المكتبة والجامعة ضروريتان لاستبقاء أهله في هذه الديار، لينتفع من خدماتهما كل من وفد بمعية الغزوة الظالمة، وأن وجود المكتبة سيكون له من أهم المشاريع المستقبلية المتعلقة بالفكر والثقافة وشتى العلوم التي ستخدم ركابه، وأهداف فئة المستوطنين الذين اغتصبوا الأرض، واستباحوا كل شيء بالقوة والقهر).
وهذه الجريمة العلمية تذكرنا بالجرائم التاريخية التي حدثت سابقا، منها حرق مكتبة الإسكندرية القديمة بمصر سنة 84 ق.م حيث وقعت معركة بحرية تسببت في حرق أكثر من 400000 مجلد. وما فعلته جيوش هولاكو الماغولي في سنة 656 هـ/ 1258 م عند دخولها مدينة بغداد، حيث أحرقوا كتبها، وألقوا بمخطوطاتها في نهر دجلة حتى تحول لون الماء الذي يجري به إلى أسود من لون المداد. أو ما جرى في مطالع القرن التاسع عشر في مكتبة الكونجرس الأمريكي التي طالها حريق سنة 1814 مما أدى إلى حرق أكثر من 3000 مجلد.
كما تعرضت في سنة 1851م إلى حريق آخر أدى إلى إتلاف أكثر من 35000 مجلد من تراث عالمي متنوع .
وما مارسته قوات الألمان ضد مكتبة لوفان الشهيرة ببلجيكا عام 1914، دون نسيان ما جرى في تاريخ الانتقام الطائفي في الأندلس أيام المحنة، وتحديدا في قرطبة المشهورة بكثرة خزائنها، وغزارة ما فيها من كتب ومخطوطات.
وبعد الحريق لم يتم استرجاع من مكتبة جامعة الجزائر إلا 000 20 كتاب التي تعد بمثابة شاهد إثبات ضد المستعمر الفرنسي.
وبعد عملية الإنقاذ، تمّ تحويلها إلى ثانوية عقبة بالعاصمة، وقد أعيدت إلى مكتبة الجامعة بعد الانتهاء من أشغال ترميم مكتبة جامعة الجزائر التي دامت عامين. وأصبحت تعرف بجناح -رصيد عقبة – نسبة للثانوية التي احتضنت بقايا المكتبة المنكوبة.
كما نقل بعضها الآخر إلى ميناء الجزائر لإبعادها عن كل خطر محتمل.
وتشير التقارير إلى أن فرنسا قامت بتهريب المخطوطات أياما قبل الحريق، حيث ذكر مقال نشر في جريدة ” لوموند ” الفرنسية بتاريخ 26 أبريل 1962 إلى خروج حاويات من مكتبة جامعة الجزائر، أخذت وجهتها نحو فرنسا، وكانت الحاويات تحتوي على عدد كبير من الكتب، وعلى المخطوطات النفيسة النادرة.
ولا شك أن هذا العمل الإجرامي الجبان، كان مبيتا ومدروسا، فقد شهد شهر أبريل 1962 تفجيرين على مستوى إدارة الجامعة، أدى إلى تحطيم بعض البنايات دون المكتبة الجامعية.
بعد الحريق مباشرة، وفي 19 ديسمبر 1962 أعلن وزير التربية الجزائري عبد الرحمان بن حميدة عن إنشاء “لجنة دولية لإعادة إعمار المكتبة الجامعة بالجزائر” من أجل إعادة بناء ما تم هدمه، وقد تشكل مكتبها من: محمود بوعياد (رئيسا)، نور الدين اسكندر (نائبا للرئيس)، الشاعر جان سيناك (سكرتيرا عاما)، الآنسة جان – ماري فرانس (سكريترة مساعدة)، السيدة صلاح باي (مكلفة بالمالية)، سعد الدين بن شنب (مكلف بالعلاقات الخارجية) ومصطفى حرتراتي (مكلفا بالعلاقات الداخلية) .
وكانت من مهامها الرئيسية هي جمع التبرعات وإعادة بناء المكتبة بما فيها الرصيد والبناية.
يقول الدكتور أبو القاسم سعد الله في الصفحة رقم 426 من آخر مجلد من موسوعته – تاريخ الجزائر الثقافي – ( أما المكتبة الجامعية فقد تضررت كثيرا بسبب الحريق الذي عانت منه سنة 1962، وتظهر إحدى الصور المكتبة وهي تحترق، والنوافذ مفتوحة، والزجاج مهشم . وفي ديسمبر 1962 قامت لجنة دولية برئاسة وزير التربية بحملة لإعادة إعمار المكتبة، و قد وصلتها ردود مشجعة . وأذكر أنني كنت عندئذ الجزائري الوحيد في جامعة – متيسوتا – فاستدعتني الجامعة، واستلمت من رئيسها – الدكتور مريديت ويلسون – رمزا لهدية الكتب التي قدمتها الجامعة لمكتبة جامعة الجزائر، وقد جرى ذلك في حفل كبير سلطت عليه أضواء باهرة).
وفي سنة 1964 شرع في إعادة تهيئة المبنى الجديد للمكتبة، قد استغرق ترميم المكتبة مدة ستة سنوات، حيث تم إعادة فتحها في 12 أبريل 1968 على النمط الذي توجد عليه حاليا، وهي تضم كل المتطلبات التي يحتاجها الطالب و الباحث ،بعدها تم إنشاء ورشة داخل المكتبة من أجل ترميم وتجليد الكتب، حيث تم ترميم عدد منها في إطار سياسة الحفظ والصيانة، غير أنه بات من المستحيل إعادة ما أتلف من كتب ومخطوطات نادرة، بسبب صعوبة ترميمها نظرا لغياب الكفاءات القادرة على القيام بهذا العمل الدقيق، مع غياب التقنيات المتطورة للترميم في تلك المرحلة الأولى من استقلال الجزائر .
غير أن جامعة الجزائر بما فيها مكتبتها الثرية، كانت ولا تزال شامخة، وحصنا عتيدا وقلعة راسخة للعلم والمعرفة رغم أنف الاستعمار، بالإضافة إلى مهمتها في تكوين الموظفين والأساتذة والكوادر والباحثين في كل مجالات التنمية.
وفي الذكرى الأولى لحرق المكتبة الجامعية سنة 1963 تحولت هذه المناسبة الثقافية الأليمة، فرصة للنخب الثقافية للتذكير بأهمية الكِتاب والقراءة كطريق لصناعة جزائر قوية، فنُظمت سلسلةٌ من المحاضرات واللقاءات في جميع المدارس والثانويات عبر الوطن ، تناولت أهمية القراءة والكتاب في التنمية، كما نُظم ملتقى حمل عنوان – حول القراءة – نقلت وقائعه على شاشة التلفزيون. وهو ما تشهده حاليا المكتبات الرئيسية للمطالعة العمومية في كل أرجاء الوطن في شهر المطالعة في احتفال .
هذه المسيرة المنقوشة في الذاكرة الوطنية تؤكد بأن الكِتاب والمكتبات في تاريخ المجتمعات هي الطريق الأمثل لتجاوز العقبات والأزمات.