الذكرى الستـون: من استقلال الأرض إلى استقلال القرار

خرافة الوعد الفرنسي للجزائر بالاستقلال

سمير خلف الله */

يخبرنا المؤرخ الأمريكي ماثيو كونيلي، الأستاذ بجامعة كولومبيا، عن الأكذوبة القائلة بأن الجنرال ديغول قد منح الجزائر استقلالها. ويقول بأنها تماثل أسطورة ديغول الطيب رجل السلم، ويشاركه في هذا الرأي العديد من المؤرخين الفرنسيين، كبنيامين ستورا وجيل مانسيرون. ونفس الموقف يتبناه زميلهما ترامور كيمينور، الذي يرى بأن استقلال الجزائر لم يكن هبة منحها ديغول للجزائر، بل انتزعه الجزائريون بعد سنوات من الكفاح. كما أن الذي يتصفح كتابات شيخ المؤرخين الجزائريين أبو القاسم سعد الله يجدها خالية من أية إشارة إلى أن فرنسا قد وعدت الجزائريين بالاستقلال. ونحن هنا نتعجب كيف خفت هذه الفكرة عنه، وهو المؤرخ الضليع والعارف بخبايا، وأدق تفاصيل وجزئيات التاريخ الوطني الجزائري. وما يشير إليه لهو الوعود الفرنسية بالإصلاح ولا شيء غير الإصلاح. وفي مقابل هذا تصادفنا مقولة الوعد الفرنسي للجزائريين بالاستقلال في كتابات بعض المشارقة، غير المطلعين كفاية على تاريخنا الوطني.

ونفس الأمر مع من يسقطون تاريخ بعض البلدان العربية على الجزائر كسوريا ولبنان اللتين منحتهما فرنسا وعدا بالاستقلال مع عدم الأخذ بعين الاعتبار اختلاف طبيعة الوجود الاستعماري فيهما عن نظيره فيها. وكذلك الأمر مع تونس والمغرب الأقصى، الخاضعتين لنظام الحماية. فعلى سبيل المثال نجد في مقال فرنسا والحرية لسيد أمين الساحلي، وهو أستاذ رياضيات في الجامعة اللبنانية، حديثا صريحا عن الوعد الفرنسي للجزائر بالاستقلال. وربما عدم اطلاعه على خصوصية التاريخ الجزائري هو من أوقعه في هذا الخطأ ولكن الأمر المحير وغير المبرر أو المفهوم أن نجد هذا الكلام في مذكرات التخرج الجامعية أو نسمعها في أروقة بعض المعاهد التي تـُـدرس مادة التاريخ أو يتبناها وينافح عنها بعض الأساتذة الجزائريين في الأطوار الثلاثة ما قبل المرحلة الجامعية، وعند بعض الجامعيين القلائل، وهؤلاء جميعا يتقبلونها كما لو كانت من البديهيات والمسلمات، ولكننا لا نعثر في هوامش بحوث هؤلاء وأولئك على المصدر الذي تم اقتباس هذه الفكرة منه، وكان المفروض عليهم الإحالة والتهميش والابتعاد عن التعميم.
ولهذا نقول بأن الذي يجري حفريات في الوثائق الفرنسية الخاصة بالجزائر يستحيل عليه أن يعثر على أية إشارة لهذا الوعد أو يصادف صاحبه؟ والأمر المؤكد هو أن هذا الوعد لم يقدم قبل العام 1914. ذلك أنه قبل هذا التاريخ، وطوال القرن التاسع عشر كانت فرنسا مهتمة بكيفية إذابة الشخصية الوطنية الجزائرية والقضاء عليها، وبكيفية دمج وإلحاق الجزائر وبناء وتجسيد الجزائر الفرنسية أو فرنسا الإفريقية كما تدعي، وما عدا هذا فهو يندرج ضمن اللامفكر فيه. وبالتالي فلا مجال هنا للحديث عن منح الجزائر وعدا بالاستقلال، كما أن الجزائريين في تلك الحقبة، قد أصبحوا شعبا مغلوبا وخاضعا، لإرادة الإدارة الفرنسية المفروضة عليه، شعبا تم تجهيله بالقوة، وربما أصبح معظمه لا يفكر في شيء اسمه الاستقلال. فلمن سيمنح هذا الوعد؟ ولماذا تمنح فرنسا المنتشية بنشوة النصر وعدا بالاستقلال؟ فما من دواع لذلك. ولماذا تتنازل وتمنح مثل هذا الوعد ومن سيجبرها على تقديمه وعد يتناقض مع أهداف وجودها في الجزائر، وهي من جاءت لتبقى لا لتخرج منها بعد أن ضاعت من أيادي الجزائريين، حسب زعمها إلى الأبد.
كما أن الحركة الوطنية الجزائرية لم تتشكل بعد وفرنسا كانت في موقع قوة إذ أن استعمارها للجزائر عاش ذروته في الفترة ما بين 1870 – 1914. كما أنها وطوال القرن التاسع عشر، كانت في موقف قوة منحته إياها الثورة الصناعية. وهي ليست بحاجة إلى الجزائريين، ولا هي تظن بأن بإمكانهم تهديد وجودها في الجزائر، حتى تسعى لكسبهم إلى جانبها، ولو بمنحهم وعدا يُخالف جوهر مشروعها الاستعماري فيها (الجزائر).
كما أن الجزائريين قد تم إقصاؤهم من المشهد خلال تلك الفترة، وأصبحوا مجرد رعايا للدولة الفرنسية وغرباء في وطنهم، يعيشون فيه على الهامش.
فلمن ستمنح الوعد بالاستقلال؟ خاصة أن الأدبيات الاستعمارية طوال القرن 19، أي منذ تقرير اللجنة الإفريقية 1834، ودستور 1848 تدعي بأنّ الجزائر أرض ومقاطعة فرنسية فيما وراء البحار، هكذا هي وهكذا ستبقى حسب زعمهما. ولما حاول الإمبراطور نابليون الثالث بناء ما يسمي المملكة العربية في الفترة ما بعد 1860، فما نال مشروعه غير الفشل الذريع، والثورة عليه، والإطاحة به في آخر المطاف وهو من حاول أن يشرك الجزائريين في حكم بلادهم ضمن السيادة الفرنسية. ولنا أن نتخيل مصيره البائس، الذي كان ينتظره لو أنه وعدهم بالاستقلال.
نعود ونقول لئن كان الفرنسيون خلال تلك الحقبة يرفضون مجرد مشاركة الجزائريين في إدارة بلادهم فكيف نتصور أن يعطوهم وعدا بالاستقلال؟ خاصة وأن فرنسا في تلك الحقبة كانت في مرحلة مد استعماري في الجزائر. وهذا يتناقض ويتعارض مع فكرة الوعد بالاستقلال، لكونها بتلك الأيام، كانت تسعى جاهدة لتثبيت وجودها، وبسط نفوذها على كل شبر من أراضيها لاقتناعها بأنها لو تنسحب منها فسوف تخلفها غريمتها بريطانيا، وبالتالي فلا مجال هنا للحديث عن استقلال الجزائر.
كما لا يجب أن ننسى بأن الجزائريين في تلك الحقبة لا هم مواطنون فرنسيون ولا هم مواطنون في بلدهم. وإنما مجرد رعايا أجانب وغرباء في الجزائر وطن الآباء والأجداد، وما من حقوق اجتماعية لهم فما بالك بالسياسية وهذا من بعد أن سرق منهم الأغراب من المستوطنين جنسيتهم كما سرقوا وطنهم وينظر إليهم المستعمر نظرة دونية وفوقية متعالية يملؤها الاحتقار. وهم حسبه جحافل من الهمج والبرابرة المتوحشين. وفرنسا جاءت لتحضيرهم وتمدينهم، وما دامت لم تنجز هذه المهمة، فما من مجال لأي وعد ومهما كانت طبيعته.
وقد يقول قائل بأنّها قد وعدت الجزائريين بالاستقلال في الفترة ما بين 1919/ 1945، لكونها قد أصبحت تحتاجهم وتخشي ثورتهم وهنا لنفترض جدلا بأنها وعدتهم بالاستقلال خلال هذه الحقبة أو بعدها. ترى من مِنَ المسؤولين الفرنسيين، قد قدم هذا الوعد؟ وأين هي الوثيقة التي نصت عليه؟ وإلى من من الشخصيات أو التنظيمات الجزائرية، قد تم تقديمها؟ وفي أي مصدر أو مرجع يمكن العثور على وثيقة ذلك الوعد فعلى حسب علمنا لا يوجد لمثل هذا الوعد، أي أثر في المصادر والمراجع، التي تؤرخ للجزائر خلال الحقبة الاستعمارية في مختلف مراحلها.
وإذا ما نحن وصلنا إلى فترة الحرب العالمية الثانية فإنّنا نجد هذه الفكرة، تـُطرح بقوة في مقالات غير المتخصصين في التاريخ. ومفادها أن فرنسا وعدت الجزائريين بالاستقلال أثناء ح ع 2، مقابل مشاركتهم فيها إلى جانبها. وهذا الطرح مرفوض، فعمليا من المحال أن يعطى هذا الوعد لحزب مصالي الحاج، وهو من رفض الوقوف إلى جانبها في محنتها، وكذلك فعلت جمعية العلماء بقيادة ابن باديس. أما ابن جلول زعيم حركة النخبة فمن المحال أن يطالب بهذا الأمر ومعه الحزب الشيوعي الجزائري، لتعارضه مع قناعاتهم الأيديولوجية. القائلة بأن الجزائر قطعة فرنسية، ولا يتصورون مستقبلها بمعزل عن فرنسا. أما عباس فرحات فعلينا أن ننتظر العام 1956 حتى يقتنع بفكرة الاستقلال، وعليه فإلى من ستقدم فرنسا هذا الوعد المزعوم؟؟.

محاولة تفكيك مقولة الوعد بالاستقلال
ولهذا فإنّنا وفيما تبقى من هذا المقال، سنحاول تفكيك السردية القائلة، بأن فرنسا وعدت الجزائر بالاستقلال. والبداية تكون مع المؤرخ محمد العربي الزبيري. هذا الذي يخبرنا في كتابة تاريخ الجزائر المعاصر. في معرض حديثه عن مجازر 08 ماي 1945 بما يلي: «إنّ أخبارا متواترة قد بدأت تصل إلى أسماع قادة الحركة الوطنية مفادها أنّ اللجنة الفرنسية للتحرير قد تمكنت من إقناع الحلفاء بأنّ الجزائر جزء لا يتجزأ من فرنسا وأنّ دعاة الانفصال لا يمثلون إلاّ أنفسهم وهم منبوذون من الشعب الحقيقي ونتيجة ذلك الإقناع صرح السيد مرفي أنّ السلطات الأمريكية لن تتدخل في الشؤون التي هي من اختصاص الإدارة الوطنية أو لها علاقة بالسيادة الفرنسية» وهنا من حقنا أن نتساءل، عمن كان يحكم أو على الأقل من كان يمثل فرنسا في تلك السنة. إنه الجنرال ديغول وهو من أقنع الحلفاء حسب محمد العربي الزبيري، بأن الجزائر جزء لا يتجزأ من فرنسا . وعليه أين هو وعد الجزائر بالاستقلال، ومن هي الجهة التي أصدرته؟، خلال تلك السنوات ولئن كان ديغول يؤمن بأنّ الجزائر جزء لا يتجزأ من فرنسا فكيف نتصوره يمنحها وعدا بالاستقلال؟ خاصة وأن الادعاء القائل بأنّ الجزائر أرض فرنسية كان لدى كلّ الفرنسيين مبدأ لا يحتمل المناقشة أو لمساومة أو التفريط فيه، ولذلك فعندما شعرت فرنسا الاستعمارية بخطورة المطالب الاستقلالية الجزائرية. أثناء وبعد ح ع 2، فقد سعت لتصفية هذا التيار عبر مجازر 08 ماي 1945، لتضمن بهذه الجريمة استمرار وجود الجزائر الفرنسية. كما سارعت إلى اصدار ما أسمته دستور الجزائر في العام 1947 وأهم ما جاء فيه أن الجزائر قطعة فرنسية تتألف من ثلاث عمالات يتساوى سكانها في الحقوق والواجبات وجنسيتهم فرنسية، فكيف تناقض نفسها وتعد بشيء لا تقره ولا تؤمن به وتحاربه وتحاول جاهدة استئصال شأفته؟ وتجفيف منابعه، وتصفية دعاته.
ثم كيف يَخْفى على القائلين بالوعد الفرنسي للجزائر بالاستقلال بأنّ الفرنسيين وإلى غاية 1945، قد كانوا يرفضون مجرد التفكير في منح تلك المستعمرات الاستقلال، فما بالك بمقاطعات فيما وراء البحار وأولها الجزائر. ظنًّا منهم بأنّ هذا العمل (استقلال المستعمرات)، سيفقد فرنسا مكانتها الدولية ويرجعها دولة من الدرجة الثانية. وهم هنا لا يزالون يحتكمون، إلى أدبيات ومرجعيات القرن التاسع عشر التي طواها الزمن، إذ أنّ عالم ما بعد ح ع 2، ليس هو ما قبلها.
كما يتوجب علينا أن ننتظر العام 1957، حتى تقتنع بضرورة منح مستعمراتها الاستقلال. ففي هذا العام غيرت بوصلتها باتجاه أوروبا، أي باتجاه التكتل الأوروبي الوليد. وإلى أن تحل هذه السنة، ففرنسا ما بعد ح ع 2. سعت وبكلّ ما تملك، لتبقي مستعمراتها تحت سلطتها. فعملت على إنشاء تجمع، يشبه الكومنوالث البريطاني، أطلقت عليه الاتحاد الفرنسي بهدف إجهاض المشاريع الاستقلالية في امبراطوريتها. ولهذا ففي مؤتمر برازافيل 1944 ما كان مطروحا هو عبارة الكتلة، المكونة من فرنسا ومستعمراتها. وهذا الاتحاد يشمل الأقاليم المحمية ومناطق الانتداب، ولا يشمل الجزائر لأنها مقاطعة فرنسية.
وتاريخيا ليس هناك سابقة، وعدت من خلالها دولة ما أحد أقاليمها. خلال ح ع 1 أو 2 بالاستقلال، نظير المساهمة في الدفاع عن الوطن الأم؛ لأنّ هذا واجب وطني لا ينتظر أصحابه المقابل، كما هو حال الجزائر الفرنسية وتاريخيا الوعود تفتك، ولا تمنح كهبات من المحتل الغاصب. أو من الحكم المحلي الجائر، كنظام الأبارتيد في جنوب إفريقيا، ونظام الميز العنصر في الولايات المتحدة الأمريكية. وهل وعدت مثلا بريطانيا، إيرلندا الجنوبية بالاستقلال في يوما ما، أم افتكته الأخيرة افتكاكا؟. كما أنّنا لا نجد وعداً واحداً، من قبل فرنسا بالاستقلال إلى أي من أقاليمها فيما وراء البحار خلال الحربين الكونيتين، فلماذا يحدث مع الجزائر الاستثناء؟ وهل نتصور بيومنا أن يمنح الكيان الصهيوني الغاصب والمحتل وعدا باستقلال فلسطين التاريخية، وهي حسبه وحسب الأعراف، ومقررات المحافل الدولية إسرائيلية؟ وكذلك كان حال الجزائر خلال الحقبة الاستعمارية.
ولعلّ البعض يخلط بين مطالب بعض اتجاهات الحركة الوطنية في الجزائر بالاستقلال. كالتيار الثوري الاستقلالي بقيادة مصالي الحاج. وهذا التيار كان مغضوبا عليه من قبل الإدارة الفرنسية. وينظر له نظرة عدو تماثل النظرة الفرنسية لهتلر. فكلّ واحد منهما يريد تخريب وتدمير فرنسا. ولو استطاعت أو وجدت الحجة لأعدمته. ولكنها لم تجدها، فالرجل رفض رفضا مطلقا التعاون مع النازية نكاية في فرنسا. ولو فعلها لحاكمته بتهمة الخيانة العظمي، لتستريح من تهديده لوجود الجزائر الفرنسية، واستمرارها في الزمن.
ومطالبة مصالي الحاج بالاستقلال عن فرنسا لا يعني تبنيها لهذه المطالب، فلئن كانت ترفض فكرة أن ينفصل عنها الكولون ويشكلون كيانا فرنسيا، خاصا بهم في الجزائر، على غرار نظام جنوب إفريقيا أو استراليا. فكيف نتصور أن تفكر في منح الجزائر للعرب وهم في نظرها العرق المنحط والمحتقر. ولهذا فإننا لم نجد -على حسب علمنا – أية وثيقة رسمية للدولة الفرنسية تعد فيها الجزائريين، بالاستقلال وتكوين دولة جزائرية مستقلة.

مصادر خرافة الوعد الفرنسي بالاستقلال:
كما أنّ مصدر هذه المغالطات، التي يقع فيها البعض، هو نتيجة عدم التمييز بين مختلف النظم الاستعمارية وعدم معرفة مختلف التطورات التي طرأت عليها، واعتبار أسلوب الغزو العسكري المباشر، الذي كانت الجزائر ضحيته هو نفسه نظام الحماية، أو الانتداب والوصاية. ففي نظام الحماية، تحتفظ الدولة الحامية بحق الإشراف على المسائل الخارجية، والدفاع والاقتصاد والتعليم. مقابل تمتع الدولة المحمية باستقلال ذاتي. وتبقى فيه كل هياكل الدولة قائمة، بحيث تعترف لها الدولة الحامية، بشخصيتها المغايرة. وإن كانت تنهب من خيراتها، إلاّ أنّها على يقين من أنه متى تنتهي الأخيرة (الخيرات)، فهي ستخرج منها إلى منطقة أخرى واعدة. وبالتالي فالوعد بالاستقلال هو تحصيل حاصل، لتهدئة المحمية نتيجة لظروف خاصة كالحرب العالمية الثانية. وهذا ينطبق على كل من تونس والمغرب الأقصى، أما الجزائر فوضعها القانوني شيء آخر ولذلك لم تعطها فرنسا مطلقا وعدا بالاستقلال. ولكون الجزائر جزءا من أراضي الجمهورية الفرنسية (فرنسا وكورسيكا). وعليه فهناك من يخرجها من مقاطعات فيما وراء البحار، كالمارتنيك لصالح أراضي دولة المركز. كما أنها ليست ضمن الأقاليم المجمعة كالسنغال والنيجر. ولا ضمن الأقاليم المفردة كالصومال ومدغشقر، ولا ضمن الأقاليم المشتركة كالتوجو، ولا ضمن الدول المشتركة كالفيتنام ولاوس. وعدم معرفة هذه التصنيفات هو سبب الخلط والتعميم. والتعامل مع الممتلكات الفرنسية السابقة كما لو أنّها كلها تحت نمط وأسلوب استعماري واحد. وما يصدق على واحدة يصدق بالضرورة على جميعها ومنها الوعد بالاستقلال، الذي هو خاص ببعض المستعمرات. ممن تحمل صفة الدولة المشتركة، أو ممن كانت تحت نظام الحماية، والانتداب والوصاية. وتخرج منها المناطق التي تعتبر أراضي فرنسية وعلى رأسها الجزائر.
ولئن كانت فرنسا قد وعدت الجزائر بالاستقلال. فكيف لم يشهر ولا تيار، من تيارات الحركة الوطنية نص هذا الوعد المزعوم، والاحتجاج به لدى السلطات الفرنسية، والمنظمات الإقليمية والدولية؟ وإنمّا الاحتجاج كان دوما، بما جاء على لسان الرئيس الأمريكي ويلسون من حق للشعوب في تقرير مصيرها ولو كان لهم غيره لاحتجوا به. مما يجعل الوعد الفرنسي للجزائر بالاستقلال مجرد أسطورة وجدت طريقها، لغايات مغرضة في بعض السرديات التاريخية.

القوانين التي تجسد فكرة الجزائر فرنسية:
وما يفندها ويكذبها، لهو ذلك الكم الهائل من المراسيم، والقوانين والقرارات. التي أصدرتها الإدارة الفرنسية بهدف تجسيد فكرة الجزائر الفرنسية على أرض الواقع ومنها:
– مرسوم 22 جويلية 1834 الذي نص على أن الجزائر جزء من الممتلكات الفرنسية.
– دستور 1848 اعتبر الجزائر جزءا لا يتجزأ من فرنسا.
– إنشاء وزارة الجزائر والمستعمرات في العام 1958 م. والتي تعاملت مع الجزائر على أنها إقليم تابع لفرنسا. وهنا لا بد من التساؤل عن سبب إنشاء الفرنسيين لوزارة خاصة بالمستعمرات والجزائر، التي هي حتما شيء غير المستعمرات. وعليه فالوعد بالاستقلال يعطى للمستعمرة وليس للجزائر التي لم تكن مستعمرة وإنما مقاطعة فرنسية.
وانطلاقا من سنة 1870 تاريخ ميلاد الجمهورية الفرنسية الثالثة. ومعها أصبحت الجزائر تابعة لوزارة الداخلية وتحكم من قبل حاكم عام، يساعده مجلس استشاري. وهكذا كانت فرنسا هي من تقرر مصير الجزائريين في تلك الحقبة. لأنّنا كنا وكما قال الأمير خالد شعبا مغلوبا خاضعا لإرادة غالبه وقاهره. وفرنسا يومهما كانت لا ترتضي إلاّ أنّ تكون الجزائر أرض المغلوبين فرنسية.
وكنتيجة مباشرة لما سبق من إجراءات اتخذتها فيما يخص الجزائر. فهي لم تكن تتصور أن تنفصل عنها الأخيرة (الجزائر). حتى لو كان انفصالا يقوم به الكولون، فما بالك أن يفصلها الجزائريون. وهؤلاء الكولون كانوا يرفضون حتى الاصلاحات الهامشية، التي تمنحها باريس لصالح الجزائريين. كتلك التي أعلنها جورج كليمنصو في العام 1919، فما بالك بمنحهم وعدا بالاستقلال؟ ذلك أنهم كانوا يعتبرون الجزائر ملكية لهم وحدهم ورثوها عن آبائهم الغزاة “de pap L’Algérie،””The Algeria Dad. هؤلاء الذين كانوا ينظرون إليهم على أنّهم رسل للحضارة والمسيحية. وانطلاقا من هذه الحجج التي يسوقونها يجب أن تبقي الجزائر فرنسية حسب اعتقادهم. ولهذا ففي العام 1904، صدر القانون الذي بموجبه تم إدماج مقاطعات الجزائر في فرنسا المركز. باستثناء الجنوب، وبقي هذا الوضع قائما إلى غاية صدور القانون الخاص بالجزائر في العام 1947.
وعندما نصل إلى محطة الح ع 2، فإنّنا نجد شارل ديغول وكرد فعل مباشر من قبله على بيان فيفري 1943. قد زار قسنطينة في أفريل 1943، وأعلن عن تأسيس لجنة لدراسة شـؤون الأهالي . وفي مارس 1944 أصدر أمرية تقضي بمنح المواطنة الفرنسية للنخبة الجزائرية دون التخلي عن أحوالهم الشخصية، ولا شيء تغير في موقفه من الجزائر، في خطاب 11 أكتوبر 1947، أو في خطاب جوان 1958، أو في خطاب أكتوبر 1958. فالرجل وإلى غاية خطابه حول تقرير المصير في 19 سبتمبر 1959. كان يعتقد في عبارة “الجزائر مجموعة مقاطعات فرنسية”. ولذلك فهو عندما أدخل تعديلات على الدستور الفرنسي، فإنه لم يمس وضع الجزائر القانوني. وأثناء الاستفتاء على دستور الجمهورية الخامسة في 28 سبتمبر 1958 تمت معاملة الجزائر على أنها أرض فرنسية.
وبالعودة مرة أخرى إلى إصلاحاته في العام 1943 فإنّ الهدف منها وكما جاء في كتاب الحركة الديغولية في الجزائر 1940 / 1945. كان يتمثل في العمل على كسب الجزائريين لأنه كان يحتاجهم عسكريًا كما كان يتخوف من ثورتهم. أو انضمامهم إلى خصومه أو إلى المنادين بحق الشعوب في تقرير مصيرها. بعيدًا عن أي توجه استقلالي للجزائر، وفي نفس العام أرغم بريطانيا والولايات المتجدة الأمريكية على الاعتراف، بسيادة فرنسا على شمال إفريقيا، وإفريقيا الغربية. لأنّ وحدة الإمبراطورية هي حجر الزاوية في الاستراتيجية الديغولية. وعليه فهو لم يفكر مطلقا في استقلال المستعمرات فما بالك بالمقاطعات الفرنسية، كالجزائر خلال ح ع 2. وديغول ذاته كان قد أوصى قبل مغادرته للجزائر بمنع منطقة شمال إفريقيا من أن تخرج من أيدي الفرنسيين. فكيف بعد كل هذا نتصوره هو أو أي فرنسي آخر يعطيان وعدا للجزائر بالاستقلال، خلال ح ع 2. لا لشيء سوى لأنه يعتبرها ملكية خاصة بالفرنسيين دون سواهم.
ومن جهة أخرى فرده على دعاة الفيدرالية في الجزائر كان حاسما وهذا ما يظهر فيما تمخض عن مؤتمر برازافيل 1944. ففيه قطع الجنيرال الطريق أمام دعاتها وعلى رأسهم عباس فرحات. فهل الذي يرفض مجرد مناقشة فكرة النظام الفيدرالي بين الجزائر وفرنسا، يمنحها وعدا بالاستقلال؟؟. إنه بموقفه هذا كان يهدف لإعادة تفعيل الإمبراطورية الفرنسية الاستعمارية بعد الحرب لكونها لا تزال تمثل فخرا للفرنسيين ولأن فرنسا لا تزال تحتاجها لإعادة الاعمار. وهذه الرؤية الديغولية للمستعمرات، ومنها الجزائر سوف تتبدل في الفترة ما بعد 1957. أي عندما يصبح مستقبل فرنسا، مرتبطا بالاتحاد الأوروبي، وليس بمستعمراتها.
كما أن ديغول وجماعته كانوا يعتقدون في العام 1945 بأن الأوضاع في الجزائر، مهددة لوجود الأمة الفرنسية كأمة كبرى. إن هي حرمتها من منطقة شمال إفريقيا، وهذا متى نجح الجزائريون في فصل الجزائر عنها. ولهذا فإنه يتوجب التعامل بقسوة مع أي تهديد للوحدة الفرنسية وأن فرنسا المنتصرة عازمة على عدم السماح لأي كان المساس بسيادتها على الجزائر. ونحن هنا نقتبس من كتاب لزهر بديدة الحركة الديغولية في الجزائر 1940 / 1945. وبعد هذا يتحدث البعض عن خرافة الوعد الفرنسي للجزائر بالاستقلال أثناء ح ع 2. ترى لمن ستقدمه في تلك الفترة نقولها ونعيدها لمصالي الحاج المسجون أم لفرحات عباس المرتاب في أمره. أم للحزب الشيوعي الجزائري هذا الذي رحب بقدوم شارل ديغول إلى الجزائر رافعاً شعار من أجل الوحدة من أجل الانتصار.
وفي نفس الفترة وبالضبط في العام 1943 نجد الجنرال هنري جيرو الحاكم العام للجزائر يرَدّ على مطالب الجزائريين بأنه مسؤول عن الحرب وليس عن السياسة. وأنه يريد انضمام الأهالي إلى الجيش الفرنسي. ونفس الموقف نجده عند زميله بيرتون. أما الجنرال كاترو فقد رفض مجرد محاورة الجزائريين لكونه يؤمن بأن الجزائر جزء لا يتجزأ من فرنسا وأعلنها بشكل صريح بأنه مشغول بالحرب لا بالسياسة. فأين هي الوعود بالاستقلال في كل ما سبق؟. وما يدعم هذا الكلام، هو ما يخبرنا به شيخ المؤرخين الجزائريين أبو القاسم سعد الله من أنّ أقصى ما تكرم به الفرنسيون خلال ح ع 2. هو الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية، لبعض الجزائريين ممن شاركوا في تلك الحرب إلى جانب الفرنسيين بعيدا عن أية إصلاحات سياسية.
أما إذا ما نحن انتقلنا إلى الفترة ما بين 1947 / 1954 فإننا نجد الأمور قد بقيت على حالها من تسلط لنظام استعماري غاشم ضمن السلم في الجزائر لمدة عشر سنوات أخرى. كما صرح الجنرال ريموند عقب مجازر الثـّامن ماي 1945. كما أن الجزائر وإلى غاية 1956 قد كانت تحكم تقريبا من قبل الديغوليين. فهم في الواجهة كإيف شاتنيو وسوستال وديغول في الخلفية. وكلنا نعلم كيف تعامل من كان يحكم فرنسا من هؤلاء الديغوليين مع المسألة الجزائرية. فكل شيء مباح ما عدا الاستقلال ومهما كان نوعه. واستمر هذا الوضع إلى غاية 1954.
وهنا نصل إلى مرحلة الثورة التحريرية ولمعرفة مدى مصداقية خرافة الوعد الفرنسي للجزائر بالاستقلال. فما علينا سوى تتبع سياسة ومواقف فرنسا وساستها تجاهها. والبداية تكون مع كتاب ردود الفعل الأولية داخلا وخارجا على غرة نوفمبر لمولود قاسم نايت بلقاسم. الذي يخبرنا بأن وزير الداخلية الفرنسي فرانسوا ميتران، قد زار الجزائر في 19 أكتوبر 1954. وركز على موضوع قدماء المحاربين والسكن وأكد على أن الجزائر هي قطب الرحى ومركز قوة فرنسا ومن يعارضون هذا الأمر، فسوف يرد عليهم بقوة القانون وعظمة الجمهورية. والجزائر في نظر فرنسا شعبا وحكومة هي “لحمنا ودمنا وعظمنا” فهل ستسمح فرنسا بانفصال قطعة من جسدها ولحمها ودمها، وجوهرة أقاليمها؟.
وعليه فأحببنا أم كرهنا، فاستقلال الجزائر جاء نتيجة فشل استراتيجية فرنسا في القضاء على الثورة وكل مشاريع ديغول، العسكرية والسياسية، والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وليس هنا محلّ عرضها قد فشلت في ضخ دماء جديدة في جسد الجزائر الفرنسية المتهالك. فها هو مشروع سلم الأبطال، حسب الباحثة سيلفي تينو، قد فشل في جعل الجزائر الفرنسية، تنطلق مجددا على قواعد جديدة. ولذلك فما من مخرج لديغول من هذا المأزق سوي الاعتراف بالأمر الواقع والإقرار من موقف الأضعف باستقلال الجزائر.
كما لا يجب أن ننسى بأنّ استقلالها لا يخرج عن إطار القاعدة الشهيرة ما أخذ بالقوة لا يسترد إلاّ بالقوة. وكلنا نعلم بأن اعتداء 1830، قد غيّب سيادة الجزائر بالقوة. قوة افتقدها الجزائريون لأكثر من قرن من الزمن. ولكن متى اكتسبوها، فإننا نجدهم قد فتحوا مسارا جديدا في التاريخ. بحيث اختفي الكيان الشاذ المسمى الجزائر الفرنسية لصالح الدولة الجزائرية الأصيلة، التي لها وحدها حق التواجد في حيزها الجغرافي. بأبعادها العربية والبربرية والإسلامية وهذا هو الأمر الطبيعي. الذي يجب أن يستمر في الزمن، وأمانة الأمانات في عنق كل الأجيال.
أخيرا من حقنا أن نتساءل عن الهدف من وراء نشر هذه الأكذوبة. إنه يتمثل في محاولة تمييع وإجهاض النصر الذي حققه الجزائريون وتقزيمه مع الاستخفاف بقداسة ضريبة الدم، التي دفعتها الجزائر لتسترد سيادتها. كما أن هناك من يخبرنا بأن الهدف يتمثل في: “عدم الاعتراف للشعب الجزائري بأنّه حقق نصرًا باهراً هو في الوقت ذاته انتصار من حجم عالمي إذ أنه كرس انتصار مبدأ حق كلّ الشعوب في الاستقلال” كما كرس تأميم قناة السويس 1956، حق الشعوب في السيادة على ثرواتها.
نعم إن أصحاب هذا الطرح يسعون لإجهاض النصر الأسطوري، الذي حققه الشعب الجزائري على فرنسا الاستعمارية. وعليه فهم وبقتلهم لهذا النموذج، فإنهم يقطعون الطريق على الشعوب الأخرى. التي لا زالت ترزخ تحت نير الاستعمار، حتى لا تكون الثورة الجزائرية، قدوتها ونموذجها كالشعب الفلسطيني. كما أنهم يوجهون رسالة إلى الشعوب المستعمرة. مفادها أنّ الاستقلال لا يأتي بالثورة. وإنما بقرار من القوى الاستعمارية متى رأت في هذا الاستقلال، خدمة لمصالحها، وهذا كلام باطل يكذبه الواقع التاريخي.
كما أنّ مغالطة الوعد الفرنسي للجزائر بالاستقلال والهبة الديغولية، جاءت كما يقول المؤرخون، لأن الآخر يستكثر على الجزائريين. أن يكون نصرهم من مستوى عالمي غير مجرى التاريخ. أو أن يقر ويعترف بأن نصرهم يماثل انتصار الفتناميين على فرنسا الاستعمارية، والانتصار على النازية في ح ع 2. لا لشيء سوى أن الآخر ينظر للجزائريين نظرة دونية احتقارية. فالبعض لم يعترفوا بشرعية الأمير عبد القادر، لكونه ووفقا لوجهة نظرهم من سلالة لا تنجب الأمراء. وكذلك الأمر مع ثورتنا المباركة، فنحن شعب ليس من حقه أن يحقق نصرا يغير به مجرى التاريخ. لكوننا حسب المزاعم الباطلة الهامش وغيرنا المركز. ولهذا فقد أوحي لهم منطقهم الفاسد بأننا كنا ولا زلنا وسنبقى مجرد عربات تقاد، وهم القاطرة التي تجرها. وكل هذا مجرد أفكار بالية من إنتاج القرن الـ 19. أيام كانت الكلمة العليا لمنظومة قيم ما يسمى المركزية الأوروبية. وما ناله الشعب الجزائري من ظلم وحيف وتجن على نصره الذي لا غبار عليه، قد طال مالك بن نبي. حينما ألف كتاب الظاهرة القرآنية، فقد حنق عليه الكثير غيرة وحسدا. واستكثروا عليه الكتابة في ذلك الموضوع، ورأوا أنه ليس من حقه الخوض في مثل هذه المواضيع.
كما يمكن القول بأن ادعاء منح فرنسا للجزائريين وعدا بالاستقلال. وبالتالي القفز على الحقائق، وتكريس مغالطة الهبة الديغولية (منحه للجزائر استقلالها). نقول بأنّ هذا الكلام يوشي بذلك الاستخفاف المتعمد بعظمة التضحيات، غير المسبوقة في تاريخ الدول المستعمرة. التي قدمهما الشعب الجزائري على مدى 132 سنة من الليل الاستعماري الطويل. حتى استرجع سيادته المسلوبة، وحريته المصادرة، وأراضيه المغتصبة. وهذا الادعاء لهو مجرد، مغالطة من قبل أصحابه ودعاته. ممن وجدوا أنفسهم مجردين من أية شرعية تمكنهم من الحديث، باسم الشعب أو حكمه. إذن فلنميع نضال وكفاح الجزائر وشعبها حتى يتساوى الجميع. فيمكن هذا المسلك من التسلل وإيجاد ثغرة لتنفيذ أجندات مختلفة المشارب والأيديولوجيات.

*شاعر وباحث جزائري في التاريخ المعاصر

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com