عشر ذي الحجة … أفضل أيام الدنيا
د. يوسف جمعة سلامة*/
أخرج الإمام الترمذي في سُننه عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله– صلّى الله عليه وسلّم-: (مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ اْلأيَّامِ الْعَشْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وََلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ- رسولُ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وََلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بشَيْءٍ).
يستقبل المسلمون في هذه الأيام شهر ذي الحجة الذي حَبَاهُ الله بفضلين عظيمين: فهو من الأشهر الحُرُم التي لها مكانة خاصة في الإسلام، وحرمةٌ عظيمةٌ عند الله سبحانه وتعالى، وفي قلوب المؤمنين، وهي (ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب) كما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ}، كما أَنّه من أَشْهُرِ الحج التي تَتَدَافع فيها مواكب الإيمان وضيوف الرحمن إلى بيت الله الحرام، ومع إطلالة هلال هذا الشّهر من كلّ عام يعيش المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها في ظِلالِ أيامٍ وليالٍ مُباركة، أقسم الله بفضلها وشرفها وَعُلُوِّ منزلتها وقدرها، إنها العشر الأوائل من شهر ذي الحجة، فَيَا لَهَا من أيامٍ مُباركة عند الله عزَّ وجلَّ، الأعمال الصالحة فيها مُضاعفة والثواب كبير.
الأعمال الصـالحة في هذه الأيام
هذه الأيام التي نحياها هي أفضل أيام العام ، إِنّها أيام عشر ذي الحجة ، التي جاءت السُّنّة النبوية مُؤَكِّدة فضلها ، وداعية إلى كثرة الأعمال الصالحة فيها، ومن هذه الأعمال:
أداء مناسك الحج والعمرة
من المعلوم أنّ أفئدة المؤمنين في جنبات الأرض كلّها تهوي حنيناً إلى البيت الحرام وتذوب شوقاً لرؤيته، حيث تُسكب العَبَرات وَتُقال العَثَرات وَتُغفر الزَّلاَّت، وَتُضَاعف الحسنات وَتُمْْحَى السّيئات وتفيض البركات، حيث أَذَّن سيدنا إبراهيم – عليه الصّلاة والسّلام – في الناس بالحج صادعاً بأمرِ ربّه، فتجاوبت لندائه قلوب المؤمنين الصادقين قائلة: (لبيك اللهُمّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد والنعمة لك والمُلك لا شريك لك)، وقد بَيَّن – صلّى الله عليه وسلّم – فضل الحجّ والعُمرة، كما في قوله – صلّى الله عليه وسلّم-: (مَن حَجَّ فَلَم يَرفُث ولَم يَفْسُق رَجَع كَيَوم ولَدَتهُ أُمُّهُ)، وقوله – عليه الصّلاة والسّلام- أيضا: (تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةَ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ للْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إلا الْجَنَّةِ).
صيـام تسـع ذي الحجــة
إِنَّ الصيام من أَجَلِّ الأعمال عند الله سبحانه وتعالى، ففضله عظيم وأجره كبير، وهو مِمّا اصطفاه الله سبحانه وتعالى لنفسه، كما جاء في الحديث القُدسي: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)، لذلك فإِنَّ صوم هذه الأيام مُسْتحب كما جاء في الحديث الشريف: (كَانَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصُومُ تِسْعًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ وَثَلاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ)، ويتأكّد صيام يوم عرفة (التاسع من شهر ذي الحجة ) لغير الحاج، حيث اتفق الفقهاء على استحباب صوم يوم عرفة لغير الحاج ، لِمَا جاء عن أبي قتادة الأنصاري– رضي الله عنه – أنّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – سُئِل عن صوم يوم عرفة فقال: (يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ).
الإكثار من التحميد والتهليل والتكبير
يُسْتَحَبّ الإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الأيام العشر؛ لِمَا ورد في الحديث: عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم –: (مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ).
الدّعاء هــو العبـادة
إِنَّ الدعاء مَلاذُ كلّ مكروب وأمل كلّ خائف وراحة كلّ مُضطرب، كما في قوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.
ومن المعلوم أَنَّ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يستقبلون في هذه الأيام، العَشْرَ الأوائل من شهر ذي الحجة، وأفضل الأيام العشر -كما هو معلوم -هو يوم عرفة، حيث يَتَّجه الحجيج إلى جبل عرفات، وَيُستحب للحاج في أثناء ذلك أن يُكثر من الدّعاء والتّلبية وذكر الله تعالى، لِمَا رُوِي عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال -صلّى الله عليه وسلّم-: (خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وخَيْرُ مَا قُلْتُ أنَا وَالنَّبيُّونَ مِنْ قَبْـلِي: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الـمُلْكُ، ولَهُ الـحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِير).
الصّدقة
لقد حثّ ديننا الإسلامي الحنيف على الإنفاق، حيث بيّن بأنه علامة على صِدْق الإيمان وَكَمَالِهِ، كما قال – صلّى الله عليه وسلّم -: (وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ)، وهي من الأعمال الصالحة التي يُستحبّ للمسلم الإكثار منها في هذه الأيام.
ومن المعلوم أنّ الإنفاق حين يكون في حالة اليُسر أو في حالة السّراء يكون أمراً طبيعياً، لكنْ حين يكون في حالة العُسْر أو في حالة الضّراء فإنه يحمل دلالة مثالية على مِصْدَاقية الإيمان والتكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع الإسلامي، كما في قوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
أعمال يُستحب الإكثار منها في هذه الأيـام
عليك أخي المسلم أنْ تَحْرص على الإكثار من النوافل في هذه الأيام المُباركة كالصلاة وقراءة القرآن، واحرص على قيام الليل وأعمال البرّ والخير وصلة الأرحام، فإنها من الأعمال التي يُضَاعَفُ أجرها في هذه الأيام المباركة، فقد ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري بشرح صحيح البخاري، والذي يظهر أنّ سبب امتياز هذه الأيام العشر اجتماع أُمّهات العبادات فيها وهي: الصلاة، والصدقة، والصيام، والحج، ولا تجتمع إلا في هذه الأيام، ومن المعلوم أنّ الأجور في هذا الموسم تتضاعف، فاجعلها نقطة الانطلاق إلى رحاب الإيمان وميادين المُسابقة في الخيرات.
يَا لَهَا من أيام مُباركة عند الله عزّ وجلّ، الأعمال الصالحة فيها مُضاعفة والثواب كبير، فرحم الله عبداً استقبل هذه الأيام الفاضلة بالتوبة وطاعة الله وأكثر فيها من صالح الأعمال وكريم الفِعَال، فصلّى وصام وتصدّق وتزكّى، واغتنم حياته فقدّم بين يديه يوم القيامة أعمالاً صالحة وطاعةً لله خالصة، تكون حجاباً له من النار، ومُرشداً يأخذ بيده إلى جَنّة الرحمن.
كلمات رائعة في العشر الأوائل من ذي الحجة
* قال الإمام ابن حجر – رحمه الله- في كتابه «فتح الباري بشرح صحيح البخاري»: (والذي يظهر أنّ السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أُمّهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يَتَأَتَّى ذلك في غيره).
* وَسُئِلَ شيخُ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – (عن عشر ذي الحجة، والعشر الأواخر من رمضان، أيهما أفضل؟ فأجاب: أيامُ عشر ذي الحجة أفضلُ من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة.
قال ابن القيّم: وإذا تأمّل الفاضلُ اللبيب هذا الجواب، وَجَدَهُ شافياً كافياً، فإنه ليس من أيامٍ العمل فيها أحبُّ إلى الله من أيام عشر ذي الحجة، وفيها: يومُ عرفة، ويومُ النحر، ويومُ التّروية.
وأما ليالي عشر رمضان فهي ليالي الإِحْيَاء، التي كان رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – يُحْييها كلَّها، وفيها ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، فَمَنْ أجابَ بغيرِ هذا التفصيل، لم يُمْكِنْهُ أن يُدْلِيَ بحُجَّةٍ صحيحة).
نسأل الله العليّ القدير أنْ يجعلها أيام خير وبركة على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها
وصلَّى الله على سيِّدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
الهوامش :
1 – أخرجه الترمذي 2- سورة التوبة الآية (36) 3-أخرجه البخاري ومسلم 4-أخرجه الترمذي والنسائي
5- أخرجه مسلم 6- أخرجه أبو داود 7-أخرجه مسلم 8-أخرجه الطبراني
9-سورة الرعد الآية (28) 10- أخرجه الترمذي
11- أخرجه مسلم
12- سورة آل عمران الآية (134)
13- فتح الباري بشرح صحيح البخاري 2/534
14-مجموع فتاوى ابن تيمية 25/287
* خطيب المسـجد الأقصى المبـارك
وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق
www.yousefsalama.com