شعاع

عندما يصيـر «الهدر» تخصـصا «؟(*)

يكتبه: حسن خليفة/

يمكن القول، بأسف شديد، إن أكثر ما نحسنه كجزائريين بصفة عامة هو «الهدر»، والهدر كلمة كبيرة لها معان متعددة ولكنها في أبسط معانيها تعني «الإضاعة» و«التضييع» و«الخسارة»؛ خسارة الوقت، وخسارة الجهد، وخسارة الطاقة، وخسارة الأموال والثروات… إلى ما سوى ذلك من المقدرات العزيزة النافعة التي تعدّ رأسمال الإقلاع والتنمية والقوة والحيوية. ونتيجة الهدر دائما سلبية ومؤلمة وقاتلة. ولمن يريد التأكد عليه أن ينظر إلى اجتماعاتنا، وأعمالنا، وتعليمنا، وهيئاتنا ومؤسساتنا وسائر شؤوننا العامة في الإدارة كما في حقول الحياة الأخرى.
فاجتماعاتنا في عديد الميادين تمتدّ إلى ساعات طويلة، وهي كثيرة، متعددة، مرهقة، وفي غالب الأحيان تكون دون جدول عمل محدد، ودون أهداف، وتنتهي عادة إلى لا شيء، وفي أحيان كثيرة تنتهي بتحديد موعد لاجتماع جديد لاحق، قد لا يتحقق أبدا!.
وفي مجال الطعام والتعيُّش، نعرف الهدر البشع الذي نمارسه والذي يمكن معرفة بشاعته بإلقاء نظرة فاحصة على «مخزوناتنا» في القمامات. كما يمكن معرفتُه من المياه الجارية في كل حي وشارع و«زنقة»؛ حيث لا يتم إصلاح الأعطاب إلا بعد أسابيع وربما شهور.
في مجال التعليم هناك مثلٌ واضح صارخ، في أكثر أقطار العالم يبدأ الموسم الجامعي أواخر شهر أوت وأوائل سبتمبر.
أما عندنا نحن فيبدأ عادة بعد شهر أو شهرين، من بداية العام الجامعي في دول كثيرة ومجتمعات مختلفة. ثم إن الدخول الاجتماعي كما يُسمى ومنه الدخول المدرسي والجامعي والقضائي، لا يكاد الموسم يبدأ حتى تندلع الإضرابات والاحتجاجات والتململات، وليس هناك عام واحد خلا من تلك الإضرابات والاضطرابات في عديد القطاعات، بما فيها قطاعات حيوية وحساسة كالصحة والنقل والتربية والمالية إلخ.. أليس في كل ذلك هدرٌ وإضاعة وإهدار للقدرات والجهود وساعات العمل وإمكانات كان يُفترض أن تُستخدم وتُنتج؟
هناك مجالاتٌ كثيرة عن هذا «الهدر» الذي نتحدث عنه ونأمل إيجاد حلول لتجاوزه؛ لأنه معضلة تنموية حقيقية، ولكن يمكن أن نضرب بعض الأمثلة:
• إن الجامعة الجزائرية على سبيل المثال فقط تمثل، في مجال الهدر، نموذجا ونمَطا عالي التمثيل؛ فهي بعيدة عن أن تكون مثالا حيا على الرشاد والقدرة والتفوق والنبوغ والترشيد… فما يُصرف في ملتقيات ومؤتمرات يعلم الجميع أنها لا تكاد تقدّم شيئا، هو مثال للهدر المقيت. إن ملتقى قد يكلف 200 مليون سنتيم، يُستقدم فيه ضيوفٌ من أقطار شتى، ولكن النتيجة أن قاعة المؤتمر لا تكاد تحصي فيها 20 فردا، في حين أن المطعم يمتلئ عن آخره.
• أيضا هناك مختبراتٌ تُصرف لها أموال طائلة سنويا، وتهيئ لها مقرات ومكاتب ومستلزمات، ولكنها في النهاية تبقى أكثر الوقت مقفَلة، لا تفيد ولا يُستفاد منها.
• فضلا عن ذلك، هناك هدرٌ كبير لفرص التكوين والتحصيل، إذ المفترض أن يكون لكل مقياس عدد محدد من الساعات سداسيا أو سنويا، ولكن الواقع يقول: إن بعض الأقسام، في كليات متعدّدة التخصصات، لا تدرّس لطلابها إلا ساعات قليلة (أربع محاضرات أو خمس) في مقاييس أساسية، ثم يُمتحن الطلاب والطالبات.
ماذا يحقق الطلاب من تكوينهم إذا كان المقياس يدرس فيه 10 ساعات أو أقل؟ كيف يكون تحصيله؟ أليس هذا هدراً من أخطر أنواع الهدر دون أن ندخل في التفاصيل والأسباب الموضوعية وغير الموضوعية، والظروف… وكلها مبررات لا يمكن أن تسوّغَ هذا الذي نمارسه في حق العلم والتحصيل والوطن والدين .
• وفي مجالات أخرى كالإدارة والمستشفيات وأوروقة العدالة وغيرها يمكن أن تشاهد هذا الهدر يمشي على رجليه، فالموظف لم يحضر بعدُ، والأوراق غير موجودة (مثال أوراق شهادات الميلاد والشهادة العائلية، في عز موسم الدخول التربوي والاجتماعي، ووثيقة الميلاد «خ» لا يمكن أن تعثر عليها)، ورئيس المصلحة الذي يمضي الأوراق ويقبل الملف مريض أو في مهمة.. الخ.
وقس على ذلك الكثير.. الكثير من المظاهر المشينة والظواهر القبيحة التي تندرج كلها في هذا الإطار الذي أسميناه تلطفا ب «الهدر» وإن كان يرقى إلى مستوى الجريمة أو ما في حكمها، لكونه يهدر فرص النهوض والتنمية والتقدم لمجتمع بأكمله ،بتصرفات بسيطة في الظاهر ولكن نتائجها وخيمة..
• وأما الحديث عن سلوك الهدر في حياتنا فحدّث ولا حرج: كالهدر والتضييع المشهود والملاحظ في: «الماء» في «الكهرباء» في «الورق» في «الطعام» (الخبز وباقي المواد)، الملابس، الشره في الشراء ثم (الرمي في المزابل)..يسري هذا في أكثر جوانب معاشنا وحياتنا.
• ويجب التأكيد هنا أن التخصص في (فن الهدر) تشترك فيه الحكومة (الدولة) مع الشعب بكل فئاته أوأكثرها على الأقل ، حتى ليمكن القول :إن الهدر يكاد يكون تخصّصا جزائريا ؟
السؤال هنا: هل يمكن أن نحلم بتجاوز هذا السلوك الرديء.. الهدر.. هدر الأوقات.. هدر الجهود.. هدر الأموال.. هدر الطاقات.. هدر فرص البناء والفعل.. هدر الإمكانيات الكبيرة الضخمة لبلد يتطلع بكل ما لدى أبنائه من طموح وحب وحماسة إلى غد أفضل ومستقبل أكثر إشراقا وأقل سوداوية؟.
(*) الكتابة في هذا الموضوع مهمة للغاية ،بل إن التذكير في شكل حملات وتوعية وتحسيس وترشيد وتربية لهو من الواجبات الأساسية لعمل الدولةوهيئاتها والمجتمع المدني ومؤسساته وجمعياته .

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com