اتجاهات

العبادة والأخلاق في الإسلام ومقصد وحدة الأمة / د. إبراهيم نويري

العبادة والأخلاق في الإسلام نسق فريد، وهما جانبان متلازمان متلاحمان، كأنهما وجهان لعملة واحدة، لا ينفكان إلا في عالم المفردات والمصطلحات. ولا ريب أن مفهوم العبادة في الإسلام ومنهجه واسع شامل لكلّ حركات ومنجزات الإنسان المسلم المستصحب في نيته وضميره طاعة الله والقيام بأوامره ومقاصد شرعه ومنهجه.

فلهذه العبادات حِكَمُها العظيمة التي يحيط العقل البشري ببعض دلالاتها وثمراتها وفوائدها ويعجز عن الإحاطة ببعضها الآخر، وحسبُ هذا العقل أن يدرك بأن الله تعالى إذا تعبّد الإنسانَ بمناسك معينة أو مخصوصة، فإن فيها الخير كله، فهو سبحانه لا يتعبّده إلا بما يُصلح نفسه ويُزكّيها، وبما يعود عليه بالخير والبركة والتزكية في حياته الروحية والمادية والاجتماعية وغيرها.

شعائر الإسلام ومغزى الوحدة:

ولقد جاءت شعائر الإسلام كلها لتؤكد حقيقة معنى الوحدة. فصلاة الجماعة عبادة يومية جعلت منها الشريعة السمحة مظهراً من مظاهر الاتحاد والانسجام والتآلف؛ فالمسلمون يجتمعون عدّة مرات في اليوم الواحد في تظاهرة وحدوية تنظم صفوفهم خلف إمام واحد وفي اتجاه قبلة واحدة، وقلوبهم نحو هدف واحد، هو طاعة الله وامتثال أمره وأداء فرضه. كما أن صلاة الجمعة، مظهر آخر من مظاهر الاتحاد والاجتماع  للنظر في راهن واقع الأمة وما تعيشه من أوضاع وما تجابهه من تحديات ومشكلات وأوهاق، وهي دورة تعبوية أسبوعية إسلامية عبادية تجسّد جانبا من جوانب حرص المنهج الإسلامي على وحدة الأمة.

فالصلاة فرضها الله تعالى على المكلفين خمس مرات في اليوم والليلة، وهي تشي بوحدة المسلمين في الغاية والهدف، فقد جعل الله تعالى مواقيتها واحدة وركعاتها واحدة وهيئتها واحدة لا تختلف من بلد إلى بلد، أو من جيل إلى جيل، ويتمّ الإعلان عنها بصوت ندي فيستجيب المؤمنون للنداء، ويجتمعون كلما سمعوا هذا النداء في بيت من بيوت الله تعالى يناجون رباً واحداً ويؤدون أعمالاً واحدة ويتجهون إلى قبلة واحدة، فأي وحدة أبلغ وأعمق من وحدة المصلين في الجماعة، يصلون خلف رجل واحد هو الإمام، ويبتهلون إلى ربّ واحد هو الله الواحد الأحد، ويتلون كتابا واحداً هو القرآن، ويتجهون إلى قبلة واحدة هي الكعبة الشريفة في أول بيت مبارك وُضع للناس، ويقومون بأعمال واحدة من قيام وقعود وركوع وسجود، إنها وحدة نفذت إلى اللباب ولم تكتف بالقشور، وحدة في النظرة والفكرة، ووحدة في الغاية والوجهة، ووحدة في المظهر والمخبر، وبذلك يصح الجزم بأن الإسلام دعا أبناءه إلى صلاة الجماعة ليتعارفوا فلا يتناكروا، ويتقاربوا فلا يتباعدوا، ويتحابوا فلا يتباغضوا، ويتصافحوا فلا يتشاحنوا، لأن الحكمة منها دالة بذاتها على جمع الكلمة والتعارف والتآلف (1).

إن ركعات الصلاة وهيأتها لا تتغير جزئيا ولا كليا عندما يؤثر المسلم أداءها لسبب أو آخر بمفرده. غير أن الإسلام ضاعف أجرها بضعاً وعشرين مرة أو يزيد إذا اختار المسلم أداءها إلى جانب إخوانه في صف واحد أو في صفوف متناسقة، وهذا الإغراء ينمّ عن مدى ترغيب الإسلام في الانضواء إلى الجماعة ونبذ العزلة، والانخراط في المناشط العامة التي تؤديها الأمة المسلمة مما يحتاج إليه المجتمع. وهذا أمر يدلّ على أن الإسلام يكره للمسلم أن ينحصر في نطاق نفسه، أو أن يؤثر مصلحته الخاصة على مصلحة الجماعة أو المجتمع الذي يحيا بين جنباته. فيتضح من ذلك أنه لمقصد أن يمتزج المسلم بالجماعة فقد ” شرع الله الجماعة للصلوات اليومية، ورغب في حضورها وتكثير الخطى إليها، ثم ألزم أهل القرية الصغيرة أو الحي الآهل أن يلتقوا كلّ أسبوع لصلاة الجمعة، ثم دعا إلى اجتماع أكبر في صلاة العيد جعل مكانه الأرض الفضاء..وأمر الرجال والنساء بإتيانه إتماما للنفع وزيادة في الخير” (2).

إن الصلاة من أعظم وأجلّ الفرائض والعبادات الجامعة للمشاعر والقلوب، ففي أجوائها يشعر المسلم في كلّ يوم يتصرّم، برسوخ معنى الوحدة والانتماء للأمة؛ فهو في الصلوات الخمس يتّجه إلى الكعبة الشريفة بمكة المكرمة، قبلة المسلمين أجمعين، فيحس بأنه واحد من ألوف الملايين من إخوان العقيدة ممن يتّجهون إلى هذه القبلة، فيشعر بأن قلبه مرتبط بالله رب العالمين، ومرتبط بالمسلمين في شتى بقاع المعمورة بهذه القبلة التي توحّد قلوبهم ومشاعرهم وغاياتهم (3).

ثم إن المقيم لهذه العبادة على النحو المرسوم يكون رضيّ النفس، حسن الخلق، جيّد المعاملة، عضوا نافعا في المجتمع الذي يعيش فيه، وإذا كان الفرد صالحا صلحت الجماعة أيضا بالتبعية لذلك كما هو معلوم. فهذا هو على الراجح السر في حثّ الإسلام على الجماعة والتنويه بعظيم منزلتها، التي لا تُدرك حقيقتها من الناحية العملية إلا عن طريق أداء الصلاة وفقه كنه جميع العبادات الجماعية أو ذات البعد الاجتماعي، فهي الأمر الكفيل بانتفاء فوارق اللون وفوارق الثراء  وفوارق الدم، ونحو ذلك من الفوارق، فيشعر الفرد شعوراً حقيقياً بأنه للجماعة، وتشعر الجماعة بأنها للفرد..لكن يُلاحظ أن هذه الحكمة لا تتحقق بصفة تامة أو على الوجه المطلوب إلا إذا أقبل المصلي على عبادته بوعي كامل ويقظة حادة وتأمل عميق، أما إذا تجردت الصلاة والعبادة من هذا الوعي وإدراك المقاصد فإنها ربما تكون قليلة الثمرة أو عديمة الجدوى (4).

وأما العبادة الثانية في أركان الإسلام فهي الزكاة، هذه العبادة العظيمة التي تستهدف دعم صلة المسلم بإخوة العقيدة والمصير والتطهّر من رذيلة الشحّ ومنازع سطوة النفس، فالزكاة سلوك تحرري فاعل من إسار هوى النفس وأنانية الذات، وهي أيضا عمل وحدوي من صميم الأعمال والمنجزات الداعمة المعضّدة لقوة المجتمع من الداخل، لكونه يُسهم في سدّ ثغرات الضعف والاحتياج والمسغبة التي يخلفها الفقر في كيان المجتمع المسلم.

ولا ريب في أن الجماعة التي ينتشر فيها الإملاق والاحتياج والعوز، تشتعل فيها العداوة والبغضاء والحقد، وتكثر الجرائم وتتفكك الأواصر، فيهتز كيان الأمة بما يشيع بين جنباتها من تقاطع وتدابر وعداوة؛ لذلك شرع الله الزكاة كوسيلة عملية سلوكية تقوي وشيجة المودة بين الأغنياء والفقراء، وتجعل منهم أسرة واحدة متكافلة متعاونة على الخير العام، فالزكاة إذن وفق هذا الطرح أو المفهوم إنما هي لمصلحة الجماعة والمجتمع، فهي كفالة لا غنى عنها لسد حاجات الفقراء والمحتاجين، بما تهيئه لكلّ عضو منهم من كرامة الشعور بالحياة الشريفة الطيبة التي ينبغي أن تضمن حدّها الأدنى الجماعة المؤمنة (5).

وأما صوم رمضان من كلّ عام فهو ينطوي على أبعاد ودلالات كثيرة، من أهمها تربية المسلم وإشعاره بأنه فردٌ من أمة كبيرة لها رسالتها وقَسَماتها العقدية والاجتماعية والحضارية المتميزة؛ ففي توقيت الصيام بطلوع الفجر ونهايته بإقبال أول الليل أثناء الغروب، حكمةٌ لتوحيد حركة المسلمين وضبط مناشطهم العامة مع إضفاء صبغة خاصة عليها، فمعنى الوحدة والتآلف محسوس في كلّ مضامين وأداءات عبادة صوم رمضان.

ولهذه العبادة الجليلة تأثير عقدي وفكري ونفسي عميق على الإنسان المسلم، إذ شاءت الحكمة الإلهية أن يكون نزول القرآن في شهر الصوم، ليكون المحور الجامع لكلّ شؤون المسلمين، منه يستمدون مقوّمات حياتهم، ويسترشدون بهداياته الشاملة لكلّ مجالات الحياة والنشاط الإنساني. كما أن لهذه العبادة تأثيراً روحيا وأخلاقيا كبيرا مشهودا، إذ تغصّ المساجد بجمهور المصلين المقبلين على تلاوة كتاب الله تعالى وتدبر أحكامه وهداياته بخشوع واستكانة لله، فتصفو الأرواح وتزكو النفوس، ويحس الجميع بوحدة الأمة الكبرى من خلال الارتباط اليومي بالقرآن العظيم طيلة أيام الشهر الفضيل.

إن أمة تتوحّد في نظام حياتها، وفي القدرة على ضبط نوازع شهواتها ومآرب غرائزها، وتتوحد في مرجعية فكرها وعقيدتها ومنظومة حياتها في شتى المجالات، كما تتوحد في مشاعرها وأشواقها وآمالها، ويتحقق لها ذلك من خلال عبادة واحدة، وفي شهر واحد، لابدّ أن تكون مهيئة للنصر والعزة والمجد، ولابدّ أيضا أن تكون عصيّة على أعدائها ومناهضي مشروعها ورؤيتها ومنهجها في بناء الإنسان والحياة والحضارة.

وصفوة القول أن صوم رمضان عبادة وقربى وركن جليل يوحّد بين المسلمين في أوقات الفراغ والعمل، وأوقات الطعام والشراب، كما يضفي على علاقاتهم وتصرفاتهم وسلوكاتهم وقعاً فريداً، بما يفرغ عليهم من سكينة الإنابة إلى الله، وبما يرطب ألسنتهم بالذكر والتسبيح ويعفّها عن التجريح والإيذاء والتخوّض في أعراض خلق الله، كما يسدّ عليهم منافذ الشر والتفكير فيه، ويملأ قلوبهم وأفئدتهم بمحبة الخير لعباد الله وخلائقه، ويغرس في نفوسهم وعزائمهم خلق الصبر ومجابهة مشاق الحياة بثبات مهما عظمت أو اشتدت وطأتها(6).

ولنا أن نتصور أو أن نفترض لو يمكن أن تستمر معاني هذه الوحدة التي نحسها في شهر الصوم قائمة في واقع حياة الأمة المسلمة وهي رقم ضخم جدا من عدد سكان الأرض، وهي التي تتوزع أراضيها في كلّ جهات المعمورة، وهي التي تمتلك من الثروات والخيرات ما يجعلها من أغنى أمم الأرض، لو استمرت معاني هذه الوحدة في الحضور، ولو تمّ تفعيلها في الواقع الحي المتحرك، هل هناك قوة في الأرض تستطيع الوقوف في وجه هذه الأمة وتحريف وجهتها في الحياة إلى غاية أو إلى وجهة لا ترغب فيها؟!

الحج أنموذج حيّ لوحدة الأمة:

ويُعدّ الحجّ إلى بيت الله الحرام من أبرز المظاهر العبادية التي يتجلى من خلالها الجانب الوحدوي، إذ إنه أعظم مؤتمر يجتمع فيه المسلمون من جميع أقطار الدنيا تلبية لنداء ربهم وتأدية مناسكهم في عبادة جماعية تضمّ المسلمين على اختلاف لغاتهم وألوانهم وأجناسهم وأقطارهم وأحوالهم، في قلوب خاشعة متبتلة خاضعة لم يوحدها سوى الإسلام ولم يجمع بينها إلا التقوى والعمل الصالح.

وفي الحج دعوة صريحة إلى توحيد الكلمة والموقف بين المسلمين، فهو تجمّع ضخم للمسلمين، يوحّد بينهم ويوثق عراهم ويجمع شتاتهم، ويؤدي إلى تعارف أبناء الأمة الإسلامية وتبادل المنافع المادية والمعنوية بينهم، وفيه كذلك إذابة للفوارق الطبقية والمادية، ودعوة إلى أن يكونوا كالجسد الواحد، ولا أدلّ على ذلك من لباس الإحرام الموغل في البساطة، وما يرمز إليه من الوحدة والتماثل بين الفقراء والأغنياء، والحكام والمحكومين، والأبيض والأسود، والعربي والأعجمي، ففي صعيده الطاهر تختفي تماما جميع الفوارق التي تمايز بين الناس في واقع الحياة، بسبب اللون أو الجاه أو المال أو المكانة الاجتماعية والسياسية، أو غير ذلك من الاعتبارات.

إن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يقصدون مكة المكرمة طائعين مختارين لهدف فريد هو أن يعلنوا بمخبرهم ومظهرهم عبوديتهم لله الواحد الأحد، وليرسخوا الوحدة بينهم ولينبذوا التفرق والتنازع والتعادي والتنافر والتشاحن. فالحج أساسه وقوامه إخلاص العبودية لله، لكن ترجمة ذلك عمليا يتجسد في تحقيق وحدة الأمة وإحلال الألفة والمودة والرحمة بين شعوبها وتفعيل التناصر والتضامن بين كلّ المسلمين، لأن هناك تلازما حقيقيا بين التوحيد والوحدة، وهذا التلازم يشعر به المسلم بقوة في موسم الحج، فهذه حقيقة تجلي أحد مقاصد هذا الركن الجليل، لأن الحج ليس مجرد رحلة أو مظاهر وشعارات وتلاوات ونسك، بل هو تطبيق عملي حيّ لمقرّرات العقيدة الصحيحة، واستنباط للعبر والدروس التي تؤكِّد من خلال مناسك الحج في مؤتمره الجامع، على أن الأمة الإسلامية لكي تسترجع مكانتها وعافيتها ودورها في الشهود الحضاري، لا مندوحة عن أن يتلازم عندها وفي كلّ حياتها التوحيد والوحدة اعتقادا وعملا (7)؛ غير أن السؤال الكبير الذي يجب أن يُطرح وأن يستمر التذكير به على الدوام هو “هل يظل المسلمون في مواسم حجّهم قانعين بهذا الموقف السلبي الذي لا يعمل فيه إلا العقل الباطن البطيء الفاتر؟ أليس يجب أن يتقدموا خطوة إيجابية توضع فيها الخطط المفصلة للوحدة الإسلامية الشاملة؟

لقد آن للأمة الإسلامية أن تخرج من قوقعة سجن الفرديات المنعزلة والقوميات المنفصلة، إلى محيط الجماعة الكبرى التي يرون منها نموذجاً مصغراً في هذه الرحلة المقدسة”(8)، ذلك أن فقه مقاصد ومرامي العبادات والشرع جملة أمر مطلوب إذ به تتحقق الثمرة وتتجسد الغايات والمقاصد.

وهذه العبادات اليومية والموسمية التي شرعها الدين الإسلامي مع غيرها من الرغائب والتوجيهات والأحكام الأخرى تكشف عن مدى اهتمام الشريعة الغراء ببناء مجتمع متحد متعاون متكافل يكون حقا كالجسد الواحد أو كالبنيان المرصوص. ولقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم، على مدى أهمية وقيمة الألفة والتضافر والاتحاد منذ اللحظات الأولى لدخول المدينة المنورة، ونفذ ذلك عمليا في حركة التآخي الفريدة حيث آخى بين الطلائع المؤمنة من المهاجرين والأنصار، فقد كان المجتمع الإسلامي حينئذ في مستهل تشكيله وفي بداية نشوئه، وهو مقبل على امتحان عسير تفرضه طبيعة الدين الجديد والوضع السياسي والأمني المحيط بالمدينة المنورة، فهو أحوج ما يكون إلى الوحدة ورصّ الصفوف وإزالة أسباب وعوامل الاختلاف والتفرّق ليتمكن ــ على ضعف إمكاناته ــ من الصمود في وجه الأعاصير الهابّة التي توشك أن تعصف من مختلف الاتجاهات.

لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمؤاخاة بين المسلمين ليجعل من الإسلام محور وحدتهم وأساس ارتباطهم وقطب حركتهم، وليجعل هذه القرابة الجديدة أقوى من قرابة الرحم والنسب، وليجعل هذه الرابطة أوثق من رابطة القبيلة والعشيرة ومن كلّ الوشائج والارتباطات الأرضية الزائلة. لقد قضى بذلك صلى الله عليه وسلم، على العصبيات الجاهلية والنزعات المختلفة التي كانت تمزق المجتمع آنذاك وأحلّ محلها حالة من الألفة والأخوة لم يذق المجتمع طعمها من قبل، فصنع من ذلك المجتمع الناشئ‏ الصغير قوة كبرى دافعت عن الإسلام واحتضنته بقوة واقتدار، وأفشلت كلّ المؤامرات التي استهدفت استئصاله والقضاء عليه، ثم حملت رايته المنتصرة لترفعها فوق ربوع الجزيرة العربية في مدة زمنية يسيرة، ثم منها إلى بقية أقطار وأمصار المعمورة.

ولعل من المناسب في هذا المقام الإشارة إلى أن الإسلام لم يُرد للعبادات المقررة في شريعته أن تقتصر على بُعد التزكية الفردية فحسب، وإنما حرص أتم الحرص على أثرها الاجتماعي وعلى مردودها الجماعي، لأن هدفه المجتمع وصلاحه، والعبادات من وسائل هذا الإصلاح والتأهيل، ولأن المفروض أيضا أن الأمة الإسلامية متساندة متضافرة في كلّ ظروفها ومتغيرات أحوالها؛ فإن مسؤولية الفرد في المجتمع الإسلامي عن الجماعة، ومسؤولية الجماعة عن الفرد، مسؤولية عظمى ليس لها حدود، لذلك كره الإسلام للفرد المسلم وأنكر عليه أن ينعزل ويستوحش ويشرد عن المجتمع وحراكه ونشاطه وتطلعاته، وبالمقابل أيضا كره للجماعة أن تهمل العناية بالفرد، وأوجب عليها أيضا أن تصون مصالحه وتحترم حريته وخصوصيته وحقوقه، فالفرد في المجتمع الإسلامي جزء في كلّ، يكمّله ويكتمل به، ويُعطيه ويأخذ منه، ويحميه ويحتمي به. ولا ريب في أن المسؤولية الفردية عن الجماعة، والمسؤولية الجماعية عن الفرد من أوضح مقاصد العبادات المفروضة في شريعة الإسلام ومنهجه الفريد(9).

أخلاقيات الإسلام منظومة وحدوية:

أما الأخلاق فهي قرينة العبادات، لا تنفكّ عنها في أعمال وسلوكات وعلاقات الإنسان المسلم والجماعة المسلمة، ويُقصد بالأخلاق في الغالب الأعم: مجموع المبادئ والقواعد المرشِدة والمنظِمة للسلوك الفردي والجماعي على نحو يشمل جميع جوانب وشؤون العلاقات والممارسات الاجتماعية والإنسانية.

وتتميز الأخلاق في الإسلام بوصفها مرسومة أو موجّهة بالوحي وإنْ بدا عليها الطابع الإنساني المحدّد لأساسيات السلوك، لذلك نلاحظ أن العقيدة الإسلامية تمنع المؤمن من أن يكون أنانياً يخصّ نفسه بما فاءه الله عليه من نِعم وأفضال، وهو يعلم أن في ذلك حرمانا لعيال الله وللجماعة المسلمة من الخير الذي حبته به العناية العليا، فالعقيدة الإسلامية تهذّب سلوكه فتجعل منه عضوا صالحا يكمّل إنسانيته بالإحساس بأهله وجيرانه وأمته وبالناس أجمعين، وهذه الأخلاق تنمي في روحه مبدأ الوفاء والانتماء والمودة للجماعة فيضحى من هذه الأرضية معتقدا بأن هذا الإحساس إنما هو من متمّمات إيمانه، ومن مستلزمات استخلافه في الأرض(10).

وفي الحديث الشريف الذي رواه عمرو بن عَبَسة تلخيصٌ حسنٌ لمدى علاقة الأخلاق بالإيمان ذاته وبحسن إسلام المرء واستقامته، ولمدى أثر منظومة الأخلاق الإسلامية في دعم وحدة الأمة وتعضيدها من الداخل: “عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه مَنْ تَبِعَكَ عَلَى هَذَا الأمْرِ، قَالَ: حُرٌّ وَعَبْدٌ، قُلْتُ: مَا الإسْلامُ؟ قَالَ:  طِيبُ الْكَلَامِ وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ، قُلْتُ: مَا الإيمَانُ؟ قَالَ: الصَّبْرُ وَالسَّمَاحَةُ، قُلْتُ: أَيُّ الإسْلامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، قُلْتُ: أَيُّ الإيمَانِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: خُلُقٌ حَسَنٌ“[أخرجه مسلم من حديث عمرو بن عَبَسة].

فيتضح بذلك أن الأخلاق الإسلامية إنما هي رديفة العبادات وشقيقتها، وأنها من أهم دعامات بناء الأفراد وتهذيب النفوس والتمكين للإصلاح الاجتماعي، وتوطيد عرى التلاحم والتضافر والوحدة، وأنها من أبرز دواعي التكافل والتضامن داخل نطاق شبكة العلاقات والتواصل والتعاون في المجتمع الإسلامي الأنموذج.

كما يتضح أيضا أن العبادة والأخلاق في المنهج الإسلامي مرتبطان أشدّ الارتباط في توطيد وتعضيد مقصد وحدة الأمة المسلمة والتمكين للقيم الحضارية التي يقوم عليها هذا المنهج.

والله وليّ التوفيق.

الهوامش:

1 ـــ عمر يوسف حمزة وأحمد عبد الرحيم السايح، معالم الوحدة في طريق الوحدة الإسلامية، الدار المصرية اللبنانية، ط1، القاهرة، 1993م، ص: 108.

2 ـــ محمد الغزالي، خلق المسلم، مكتبة رحاب، ط5، الجزائر 1987م، ص: 177.

3 ـــ محمد أبو زهرة، الوحدة الإسلامية، دار الرائد العربي، بيروت، د ت، ص: 235.

4 ـــ محمد عبد العليم العدوي، الوحدة الإسلامية في مواجهة التحديات المعاصرة، دار البيان للطبع والنشر، ط1، القاهرة، 2003م، ص: 56.

5 ـــ المرجع نفسه، ص: 66.

6 ـــ محمود شلتوت، من توجيهات الإسلام، ط: 7، دار الشروق، القاهرة، 1980م، ص:350.

7 ـــ معالي عبد الحميد حمودة “الحج تلازم بين التوحيد والوحدة”، مجلة الحج، السنة الثالثة والخمسون، الجزء السادس، ذو الحجة 1418 هـ/ أبريل 1998م، ص: 36.

8 ـــ عمر يوسف حمزة وأحمد عبد الرحيم السايح، معالم الوحدة في طريق الوحدة الإسلامية (مرجع سابق)، ص: 56.

9 ـــ عبد الرحمن عزام، الرسالة الخالدة، ط5، دار الشروق، القاهرة، 1979م، ص: 69.

10 ـــ المرجع نفسه، ص: 63.

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com