خــــاب ديغــــــــــول…
يكتبه د. محمّد قماري/
قعدت لأكتب عن الذكرى الستين للاستقلال، ولم اهتد إلى جمع كلمات في سماط واحد اكتب فيه، وعادتي في الكتابة أنني أنفر من التكلف فيها، فأصدق الكلام ما خالط وجدان صاحبه، وتغذى بدم قلبه واحترق بحرارة أنفاسه، تلك هي العبارات التي يتلقاها القارئ حارة فوارة، تنساق إلى وجدانه وتخالط دماءه وتسري في عروقه، أما العبارات المتكلفة فإنها لا تتجاوز مجال البصر، وتغوص بعده في مكان سحيق من النسيان!
وسألت نفسي ويحك، أبلغت بك برودة الحس مبلغا لم تجدي معه ما يكتب عن يوم عظيم؟ يوم ولت جحافل المعمرين يحملون ما خف من متاعهم إلى الموانئ، ويوم سبقتهم ارتال عساكر الاحتلال فارين إلى الضفة الأخرى من المتوسط، ويوم أن صدح ذلك النشيد الخالد في كل أرجاء الجزائر:
يا محمد مبروك عليك الجزائر رجعت إليك!
فكانت كلماته ردًا عبر الزمان، وقارب الزمان والمكان، فقبل قرن وثلث قرن، كان ملك فرنسا شارل العاشر يلوح بيديه المثقلتين من الورم، وهو يودع جحافل الغزاة قائلا: (سوف لن يكون للجزائر ربا سوى المسيح)!
يا نفسي اخجلي، ويأيها القلم الذي صاحبني لسنوات، اكتب باسم ربك الذي جعلك آلة التعليم، هذا يوم الاستقلال فلا تشمت بي؛ قالت النفس ونطق القلم:
نحن رهن أمرك وارادتك، ولا تلومن أدواتك، ألا ترى أن ضوء الشمس هو مصدر الرؤية، لكنك لا تستطيع التحديق فيها إذا تجلت بجلالها، وجلال ذكرى الاستقلال جعلت المعاني تتزاحم في داخلك، فلم تقو على انتخاب طريق تسلكه، ومعنى قريب ترصفه في كلمات، ألا ترى إلى أولئك الذين يتحدثون، فيكثر حديثهم عن الاستقلال، فإذا بهم يجعلون جمهور الناس ينصرفون عنهم وربما عنه، لأنهم وهم يتحدثون عن الاستقلال يأتون بكل منكرات هدمه والتهوين منه، إنهم لا يرون فيه إلا (استحلالاً) لكل مقدس، وانتهاكًا لكل معاني الحرية التي سقت شجرتها دماء الأطهار من الشهداء…
إنهم حين يكتبون أو يخطبون، إنما ينشدون ثمنا لكلمات يلقونها، فلربما صادفت هوى عند من يستطيع أن يجزل لهم العطايا، وتلك عاطفة سقيمة لا تستقيم وحب الأوطان، فالوطن ليس فندقا إذا ساءت خدماته بحثنا عن غيره، وليس ترابا إقليميا وأرضا، وإن يكن كل ذلك من معانيه، فإنه انجذاب نشترك فيه مع الحيوان، إذ يحن إلى مراعيه ومصدر قوته…
أما الوطن عند الراشدين من البشر، فهو انتماء وحب يطغى ويغمر كل شيء فيه، فهو حب لكل ما فيه وكل من فيه، وسعي دائب ودائم للذود عن جميع مكوناته، فهو يتجاوز الأهل والعشيرة الضيقة، ويتجاوز الجهة والاقليم، ويتسع إلى جميع أركانه وزواياه، ونبذ كل ولاء لا يستوعب هذه المعاني مجتمعة…
لقد مضت عقود ستة من الزمن، وإنني لأرى تلك الشوارع قد غصت بالناس، ذات يوم صائف من شهر جويلية 1962، أحقا خرج (القاوري) من أرضنا؟ وجوه كأنها في يوم المحشر تخرج من الأجداث، وهل كان ليل الاستعمار إلا قبرا دفنت فيه أرواح الجزائريين؟
لم أشهد ذلك اليوم فلقد كنت في ضمير الغيب لم أولد بعدُ، لكن سمعت من أمي نتفًا من قصص الفرح، قالت كنا نغني:
امرأة المجاهد لابسة النيلون…
وامرأة (القومي) تبكي على ديغول!
ديغول أو الجنرال ديغول، كان حاضرًا على ألسنة الناس، لا بوصفه مخلصًا للجزائر كما ادعى (الطلقاء) بعد ذلك، بل كان، والعبارة لرولان ديما وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، سفاح الجزائر الذي أعمل فيها ذبحًا وتقتيلا، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وبعد أن استنجدت بها فرنسا سنة 1958، وراهن على أن استقلال الجزائر لا يعمر إلا بضع سنين…
مضى نصف قرن، ومضت عشرا من السنين معه، فإذا بخلايا دماء الشهداء تسري في عروق جديدة، تكفر بكل السم الذي عمل (المكتب الثاني) الاستعماري على بثه، وهو مكتب (المعنويات) النفسية، فإذا بالجيل الجديد على الرغم من المحن والإحن، يتطلع إلى ماضيه المجيد ويحاول القفز إلى مستقبل تليد…
تاريخ الجزائر لم يبدأ مع احتلال فرنسا، والأمة الجزائرية ضمن فضائها الطبيعي والثقافي لن تكون فرنسا، وخير لمن مازال يعاني من عقدة الفردوس المفقود في فرنسا، أن يطوي صحفه ويعمل على التأسيس لتاريخ جديد بعيدا عما كان دون نسيانه، والجيل الجديد في فرنسا يجب ألا تسمم حياته بعقد مرضية ما زال يحملها (مرضى الاستعمار)…
بحلول الذكرى الستون للاستقلال، نحن بصدد جيل يتوارى، كان شاهدًا على استباحة حرمة أمة وانتهاك وطن، وجيل عاش تحت ظلال راية النجمة والهلال، ولون يرمز إلى خضرة الحياة، و بياض يرمز إلى سلم وسلام.