ذكرى الاستقلال؛ المعزوفة الخالدة للأجيال
أ.د. عبد الرزاق قسوم
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/
أَنشْدوا، أنشدوا يا شباب أنشدوا كل لحن حسن
وابسموا، وابسموا للأماني وأنشروا، وأنشروا للزمن
كلنا نرمي إلى نيل غاية المنى كلنا نرمي إلى خير الوطن (العمل)
***
إشهدي يا سمـــــاء واكتُبن يا وجــــــود
إننـــــا للحــمـــــــــــــــــى سنكون الجنـــــــود
فــنــزيـــــــــــح البــــــــلا ونفك القيــــــــــــود
ونـــــذيـــــــق الــــــــردى كل عات كنــــــــود
***
هذه الشعارات وغيرها، هي المشاعر التي طالما اختلجت في النفوس، وكُتبت في الطروس، وحُفظت في الدروس.
ولطالما ورثها صاغر عن كابر، وورَّثها غابر لحاضر، فغدت قيما ومبادئ يلتزم بها كل جيل لتثبيت كل ما هو أصيل، والنأي عن كل ما هو دخيل.
وهكذا غُرست في ضمائر الأجيال فكرة الاستقلال، ولكن الاستقلال بأدق وأعمق ما تحمله الكلمة من معنى، استقلال الذات الحضارية عن الشعارات الاستعمارية، واستقلال الذات كضامن لاستقلال المؤسسات، واستقلال الذات والعقول كمقدمة سليمة لاستقلال الثكنات والحقول.
ذلك كان، في عهد الماهدين الأوائل من البناة لتحرير الشعائر والمشاعر، وضمان استقلال وطننا الجزائر.
واليوم وقد تحقق الاستقلال الوطني، وانقضت عقود ستة على هذا الحدث المصيري، وهانحن نحيي الذكرى الستين، ماذا يحق لنا أن نسجل؟ وماذا يجب علينا أن نعمل؟
جميل جدا أن نملأ الدنيا بشعارات الإشادة بالحرية والاستقلال، والتغني بأمجاد الذين كانوا جسورا للفداء والتضحية كي ينعم شعبنا بالمجد والاستقلالية، ولكن أليس من حق التاريخ علينا، أن ندقق التعاليم ونصحح المفاهيم، ونعيد بث الروح الاستقلالية الصحيحة في القبائل والأقاليم؟
نحن نتفق جميعا على أن الاستقلال عَلَم خفاق، وأمل رقراق، وجيش طوّاق، ولكن هذه غايات نبيلة، وأهداف جليلة، تصنعها مقدمات صحيحة وأصيلة، تتمثل في العمل على استقلال الذوات للحفاظ على استقلال المؤسسات، وبناء الوعي وازدهار الحضارات.
ولذلك، يجب على كل من ولاّه الله مسؤولية في هذا الوطن، أن يسأل نفسه، ماذا تحقق من هذه القيم العالية والغالية؟
هل نجحنا في بناء الإنسان المستقل في عقله، وقلبه، وجيبه، عن شلال الغزو الثقافي، والإغراء الاقتصادي، والتلويح بفساد الذمم، ورصد الهمم؟
إن الجواب عن كل ذلك، يبدأ بوضع المنظومة التربوية العريقة، والهيكلة الاقتصادية الدقيقة، والعلاقات الاجتماعية القائمة على العدل والحقيقة.
إن تحقيق الاستقلال الحقيقي يبدأ من هنا، لأنه غاية سامية ونامية، وتتطلب العزائم والإرادات العالية والواعية.
نريد لأطفالنا أن يشبوا بلابل صداحة، يعبّرون عن مكنوناتهم بلغتهم الأصيلة المتينة والمترجمة عن الفصاحة.
ونريد لشبابنا، أن يستقلّوا في عملهم الوطني، فينعموا بالاكتفاء، ويبتعدوا عن الاستجداء، ويتطلعوا في آمالهم وطموحاتهم إلى عنان السماء.
كما نتوق إلى محيط اجتماعي واقتصادي، وتجاري، وإعلامي، خال من التلوث الثقافي والاديولوجي، ينعم بالوفاء، والصفاء، وحسن الأداء، في جوّ من المحبة والإخاء.
فإذا أردنا أن نكرّس معنى الاستقلال في ضمائر وعقول مواطنينا، نحن مدعوون إلى أن نحيط بناء استقلالنا بستين شمعة، بالرعاية والسعي، ووسائل النماء، حتى لا يفقد صلابته، أو يضيّع مهابته.
إنها أمانة الشهداء الذين دعوا باسمك الله، واستشهدوا، فحمّلونا مسؤولية الوفاء للعهد الذي قطعوه، والدم الذي نزفوه، والجهد الذي بذلوه، إن هذه الأمانة ستظل تلاحقنا دوما.
فهل نحن أوفياء لهذه العهود؟ وهل نحن أصلاء في تجسيد المواثيق والبنود؟
إن الجواب بنعم عن هذه الأسئلة كلّها، يجد ترجمته الصحيحة في الواقع الوطني المعيش.
يوم تختفي من واقعنا دمعة اليتيم، وحسرة الأرملة وما تكابده من جحيم، ويكف عن الإلقاء بنفسه في مغامرة البحر العظيم الشاب الوسيم والقويم.
فعار على استقلال نحتفل به اليوم بعد انقضاء ستين سنة، أن يوجد فيه خريج جامعي بطال، وشاب متعلم سمسار ومحتال، ومنتم إلى الدين، وهو مشعوذ دجال، وسياسي مغترب يكيد للجزائر من أجل القطيعة والانفصال.
فيا قادة بلادي! ويا مواطني أرض أجدادي! إن ستين سنة من الاستقلال السياسي، كفيلة بأن تلهمنا الرشد وتعيدنا إلى صدق العهد، فقد وهبنا الله أرضا قلّ نظيرها بين البلدان، بما تتميز به من كنوز، وبما خصّها الله به من رموز.
وطن يعج بالشباب، ويُذهب بالألباب، ويتيه على جميع البلدان بالسمو فوق السحاب.
إن وطننا يتوق إلى أن يسمو مواطنوه، وقادته، إلى مستوى ما وهبه الله من خيرات، وهذا لا يحتاج إلا إلى شيء واحد، هو الوعي والسعي، والأمانة وصدق الديانة.
إننا بالرغم من بعض الغيوم التي تحجب جمال وكنوز، ومفاتن بلادنا، نظل متفائلين، فهذا الوطن هو وطن العلماء، والشهداء، والصلحاء، وقد عملوا جميعا بصدق ووفاء، ومحال أن يخيّب الله آمالهم.
إن الجزائر في أحوالها عجب ولا يدوم بها للناس مكروه
فعسى أن يأتي الاحتفال بانقضاء ستين سنة على الاستقلال، يأتي بنضج الوعي، وحسن السعي، للخلاص من كل تهديد بالبغي، والنعي، ما دمنا جميعا نرمي إلى خير الوطن، وخير العمل.