على هامش التنوير

لمَ لا نقرأ تفسيرا علمانيا “تنويريا” للقرآن الكريم؟

أ.د. عبد الملك بومنجل/

 

 

العلمانية بنتُ التنوير المدلَّلة؛ فالتنوير في أصله الغربي حالة عقلية عنوانها تحرر العقل البشري من وصاية الدين ومرجعية الغيب، وأخذه زمام التصرف في الوجود البشري بنفسه، يكتشف العالَم بالعلم، وينظّمه بالعقل، ويدعُ عالَم الغيب خارجَ مجال الاهتمام مسألةً شخصية تعني الفرد ولا تعني المجتمع؛ وربما سعى إلى اجتثاثه من تفكير الفرد أيضا.
وقد حلّت العلمانية، بهذا المفهوم، مشكلتها مع الدين تماما؛ فالعقل يسيّر المجتمع، والدين شأن فردي ولا حق له في إملاء أيٍّ من شروطه وقيمه على الحياة العامة، ونصوصه مسألةٌ تاريخية ومعرفية لا غير؛ فهي تُدرس تفكيكا وتأويلا لنقض مركزيتها أكثر مما تُدرس لاستلهام الحكمة منها؛ أما الحياة المدنية فتنظمها نصوصٌ سياسية وقانونية بشرية واضحة دقيقة لا يكاد يختلف في فهمها، ومن ثم تطبيقها اثنان.
أما النسخة العربية من العلمانية فلها وضعٌ آخر، لأنها تتعامل مع دين من نوع آخر: دينٍ أراد الله له الشمول مكانا والخلود زمانا واستغراق شؤون الحياة كلها تشريعا، فاتخذ له القرآن الكريم مرجعا وأساسا، فاتخذت منه الحياة بكل حقولها وأطوارها محورا ومدارا، وبُنيت على هديه حضارةٌ كاملة تنقرضُ الحضارات ولا تنقرض. لذلك كان لا بد أن تنقسم العلمانية العربية قسمين: قسما وفيا لأصله الغربي؛ فهو لا يرى للدين أيَّ حق في توجيه حركة المجتمع وضبط نظامه، ولا يرى للقرآن أيَّ امتياز على بقية النصوص الدينية، وأيَّ نبوٍّ عن الشروط التاريخية التي يفرض بها الزمان والمكان آثاره على التجارب البشرية؛ وربما نسبَ الدين إلى الخرافة، وفسّره على أنه اختراع الإنسان وليس وحيا من الله؛ وقسما يُظهر الإيمان بالدين وحيا من الله، وبالقرآن كتابا إلهيا منظما للحياة على جهة الاستمرار زمانا والشمول مكانا، ولكنه يحتاج إلى فهم متجدد متفتح، ويحتاج هذا الفهم المتجدد إلى تأويل متعدد القراءة متطوّر؛ لذلك ترى المنتمين لهذه الفئة لا يصرّحون في الغالب بأي خطاب يشتمّ منه رائحة الإنكار للقرآن الكريم والمنابذة لقيمه وأحكامه؛ ولكنهم يجتهدون في تأويل بعض آياته وأحكامه على غير الوجوه التي استقر القول بها لدى علماء الأمة. وربما جمع الواحد من العلمانيين بين الموقف الأول والموقف الثاني، كما فعل أدونيس حين صرّح في (زمن الشعر) بأن النقد الثوري الحقيقي هو الذي ينتقد الصحيح لا الزائف، والأساس لا التطبيق؛ أي ينتقد الإسلام ذاته لا تطبيقاته، ثم رأى أن يُعدّل الخطة، فيزعم أن اعتراضه هو على النصوص الثواني؛ أي المفسِّرة للدين، وليس النص الأول، وذلك في كتابه (كلام البدايات) إذ يقول:
“فالحداثة، ليست في الأساس، مواجهة للنص الأول، و إنما هي مواجهة للنص الثاني. إنها ترفض أن يحصر النص الأول في تأويل واحد، تخطاه الزمن وتخطته المشكلات التي يواجهها المجتمع العربي– الإسلامي. وهي ترى، تبعا لذلك، أن التأويل السائد قيَّدَ الحقيقة مخضعا إياها لفهم أصحابه، وهو في هذا يقيد النص القرآني ذاته. هكذا، بدلا من أن يبقى النص القرآني، كما هو بدئيا، نصا مفتوحا على الواقع والعالم والإنسان، تحول إلى نص لا مدخل إليه ولا معيار لما يحتويه إلا ذلك التأويل السائد. لقد أصبح النص القرآني نفسه مغلقا وتابعا هو نفسه لهذا التأويل”.
خطة القسم الثاني من العلمانية العربية إذاً هي الزعم أن المواجهة هي مع التديّن لا الدين ذاته، ومع النصوص المفسّرة للقرآن الكريم وليس القرآن نفسَه. وتعويل هذه الفئة على التأويل الذي يفتح باب القراءة على مصراعيه إلى الحد الذي يُسوّي بين القراءات في المشروعية، وينفي عن الخطاب القرآني أية مزية بيانية بانتفاء الثبات الدلالي؛ وقد قال الطيب تيزيني: “نلاحظ أن كل النصوص والقراءات– دون استثناء- التي أنتجت عبر الانتماء المعلن والمضمر للإسلام في تاريخ الإسلام، تمتلك (شرعيتها النصية)، بقدر أو بآخر وبدلالة أو بأخرى، ذلك أن النص المذكور، بما هو حمال أوجه، يمثل إطارا مفتوحا يسع الجميع ويحتملهم، سواء ذلك بصيغة تفسيرية، أو أخرى اجتهادية، أو ثالثة تأويلية، وكذلك سواء تم ذلك بكيفية تعسفية متزمتة أو بأخرى منطقية مستنيرة منفتحة”.
ولا شك أن هذا المذهب في ادّعاء قابلية القرآن لكل تأويل يؤول في النهاية إلى إنكار بيانية الخطاب القرآني، وقابليته للتطبيق بناء على ذلك، والقول بانتفاء الحكمة عن الله تبعا لذلك؛ ولكن السؤال الذي يُحرج هذه الفئة من العلمانيين حقا هو: لمَ لمْ تُنجزوا إلى الآن تفسيرا كاملا للقرآن الكريم، ما دمتم تؤمنون به، وتريدون له قراءة مستنيرة تناسب العصر؟!

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com