الطريق الصحيح -2-/ أ. محمد الحسن أكـــيـــلال
في بداية القرن الماضي، حين تحركت شهية الإمبراطوريتين الاستعماريتين بريطانيا وفرنسا، وتأهبتا للانقضاض على امبراطورية الرجل المريض كما كانت تسمى – الدولة العثمانية – عقدت الدولتين الغربيتين الصليبيتين ندوات وملتقيات لتدرس أوضاع العالم العربي الذي كانت تديره الخلافة العثمانية من اسطنبول؛ ولعل أهم ما يقتطف من مجموع النقاشات بين ممثلي الدولتين كلمة في غاية الأهمية لممثل بريطانيا “كامبل بنرمان” حيث قال: “إن أوروبا الحالية قد بدأت بوادر شيخوختها وهي على ما تتوفر عليه من طاقات فكرية وعلمية وتكنولوجية واقتصادية، فهي تعاني النزاعات القومية والدينية والقطرية التي تعرضها لحروب وصراعات قد تنهي دورها الحضاري، مقابل أمة واحدة في جنوب البحر الأبيض المتوسط الذي يفصلنا عنها، فهي أمة واحدة، بلغة واحدة، ودين واحد، ولها من مقومات النهوض السريعة للعودة إلى مكانتها السابقة، ما يجعلنا مجبرين على وضع خطة لتأخيرها، وتخلفها، وهذا لا يمكن حدوثه دون تجزئتها، وتقسيمها، وزرع كل أسباب التناحر والتخلف فيها”. وقد حدث ما أراده في مؤتمر عام 1907م من رسم خارطة للمنطقة، رسِّمت في عام 1916م باتفاقية “سيكس بيكو” التي نفذت مباشرة بعد سقوط الدولية العثمانية، وفرض الانتداب البريطاني والفرنسي على الغنيمة المقسمة، وتم لهما ما أرادتا ولو خلال مدة قرن من الزمن..! ومع ذلك فقد نجحتا فعلا في تنفيذ الخطة الجهنمية، وها هي المنطقة تصل بعد هذا القرن إلى حيث كانت وأرادت لها القوتان الإمبرياليتان، تجزئة وتخلف وتناحر فيما بين أقطارها.
فلسطين هي البداية وهي النهاية
البداية كانت أرض فلسطين التي رسمت خارطتها الجغرافية في شكل خنجر يفصل بين المشرق والمغرب العربيين…!، يشرد أهلها بقوة الحديد والنار لإحلال اليهود الصهاينة الذين جلبوا من كل أصقاع العالم ويؤسسوا لهم دولة بقرار من هيئة الأمم المتحدة، في حين يتم إلهاء الفلسطينيين المساكين بقرارات كثيرة من هذا المنتظم الأممي، دون أن يعرف أي قرار منها يكون طريقا إلى التنفيذ، وعدوا بدولة ولكن دون الاعتراف بها دون رضى الدولة النشاز التي أنشأوها هم، رغم اقتناعهم بأن هذا الكيان الشاذ المارق هو أخطر تهديد للسلم والأمن في العالم.
ولأن فلسطين كانت الغاية والوسيلة بالنسبة لمختطفيها الإمبرياليين الصليبيين الصهاينة فقد شكلت أيضا الغاية والوسيلة بالنسبة للشعوب العربية التي احتضنتها وجدانيا لقلة الحيلة وضيق ذات اليد لأسباب كثيرة، بعضها ذاتي وآخر موضوعي، لعل أهمها ذلك التخلف المزروع سلفا من قبل الاستعمار الغربي الرأسمالي الصهيوني؛ لقد كانت الوسيلة لشحذ الهمم والعزائم لتقوية اللحمة والوحدة في فترات كثيرة من التاريخ، وكانت الغاية للتحرر والوحدة والتقدم إلاّ أن ما سخر لإبقاء هذه الشعوب حيث أريد لها أن تبقى أقوى وأخطر مما يتصور.
لقد أخضعت الشعوب العربية والإسلامية المجاورة لأرض فلسطين جغرافيا وثقافيا وحضاريا لأنظمة فصلت خصيصا من الدوائر الإمبريالية لترويضها، ثم لتدجينها، ثم لاستسلامها النهائي للأمر الواقع المفروض عليها كقدر محتوم.
بتأكد الدول الاستعمارية من عودة الوعي لدى بعض هذه الشعوب، واكتشافها للطريق الصحيح المؤدي إلى الانعتاق والتحرر التجأت لتجريب الخطة الثانية التي لا تختلف كثيرا عن الأولى إلا في الوسائل، لأن الأولى لم تكن في حاجة إلى استعمال القوة المدمرة للتخلص من الدولة العثمانية، في حين أن الدول العربية الرافضة للاحتلال والهيمنة أصبحت كثيرة، وبدأت تمتلك من أسباب القوة العسكرية والاقتصادية ما يمكنها أن تشكل به تهديدًا وخطرًا على الدولة الصهيونية في فلسطين التي يعتبرونها قاعدة خلفية واستراتيجية في صراعهم ضد المعسكر الشرقي.
عودة دائرة الصراع إلى حيث كانت…!
بحلول نهاية ثمانينيات القرن الماضي، ظن الغرب الرأسمالي الإمبريالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية أنه تخلص نهائيا من الاتحاد السوفياتي، وأوقفت الحروب في الهند الصينية بالطرق الدبلوماسية التي فتحت المجال للعولمة لإدماج كل الشعوب والأنظمة الثورية المناهضة للاستعمار بوسائل اقتصادية ومالية وتجارية واستخباراتية، لتسهيل عملية الاختراق الصهيوني الإمبريالي؛ وانحسرت دائرة الصراع إلى حد وصولها إلى النقطة التي بدأت منها، واتضح أن الخطر عاد من جديد ببداية نشوء محور جديد للمقاومة بعد أن ظنوا أنهم تخلصوا منه إلى الأبد.
إن الخوف الذي سكن قلوب اليهود الصهاينة انتقل إلى حلفائهم، فبمجرد بروز بوادر مشاريع نهضوية في كل من العراق وإيران وباكستان وسوريا والجزائر سارعت الدول الإمبريالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية إلى وأدها في المهد حتى لا تكبر، ويستفحل أمرها ويمتد تحالفاتها إلى القوتين الشرقيتين “روسيا الاتحادية” و “الصين الشعبية”، لقد قامت بعملية استئصال لكل من العراق وسوريا بالتدمير الشامل، ولكنها أخطأت أيضا ببقاء إيران وباكستان، وعودة تركيا إلى محيطها الطبيعي الحضاري والثقافي والديني؛ خاصة وأنها ظلت لعقود من الزمن مدمجة في حلف شمال الأطلسي.
إن دائرة الصراع ضد روسيا ضاقت إلى حدودها مع دول أوروبا الشرقية التي سلخت منها قسرا في بداية التسعينيات من القرن الماضي، وهي وإن كانت الثورة البلشفية سببا في عدم مشاركتها في اتفاقية “سيكس بيكو” فهي لا تقبل بحرمانها من بحار المياه الدافئة، والمضائق المائية التي توجد أغلبها في الشرق الأوسط، وهي بحكم اختلافها الديني والمذهبي عن الغرب الإمبريالي، وبقاء أغلب شعوبها متمسكة بفكر وثقافة الاشتراكية، وإن تحولت على مر الأيام إلى الديمقراطية الاجتماعية فهي إذن لكل هذه الأسباب ستبقى بحكم المنطق قريبة جدا من شعوب وأنظمة الحكم في دول الممانعة العربية الرافضة للاحتلال الصهيوني لفلسطين؛ وهنا سر ما يحدث في سوريا حاليا، سوريا التي كانت منطلقا وبداية الدائرة لكل ما جرى ويجري في المنطقة، وتعود من جديد منطلقا ودائرة للصراع بين الشرق والغرب، فالحسم في سوريا ينجر عليه كتحصيل حاصل الحسم في قضية فلسطين.
الخطر الداهم لفلسطين ولسلطتها التي فرض عليها اتفاق “أوسلو” سجنا بأسوار ثلاثة هي: 1/ السور الأمريكي والغربي، 2/ والسور الصهيوني، 3/ السور العربي، وهو أخطرها حاليا. و تمثل في النظامين المصري والأردني، وهما مكبلان بقيود اتفاقيتي “كامب ديفيد” و”وادي عربة” وسور جديد تبنيه المملكة العربية السعودية، و الإمارات العربية المتحدة، والبحرين.
الأكيد أن السلطة استطاعت تحقيق بعض النجاحات الدبلوماسية بانتزاعها للعضوية في الأمم المتحدة كمراقب، ووقوف أغلبية دول العالم ومن بينها الدولتان الاستعماريتان السابقتان اللتان اشتركتا في تمليك أرض فلسطين لليهود، لكن هذه النجاحات تظل وسيلة أخرى للابتزاز والإلهاء للشعب الفلسطيني ما لم يطور الانتفاضة إلى شكل من أشكال المقاومة التي تؤلم العدو، وتمنح للفلسطينيين الموقع التفاوضي الأقوى.
فالطريق الصحيح دائما وأبدا هو طريق المقاومة المسلحة، والحصن بدأ بالتشييد، وسيكون قويا عن قريب بإذن الله.