فقه الأولويات في العمل بالثوابت والمسلمات/ محمد مكركب
أجمع أهل العقول السليمة عامة بأن الله تعالى لم يخلق الإنسان عبثا، وإنما خلقه لغاية جليلة القدر، لأنها من تشريع القادر المقتدر، وعندما أرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب ليحكم الناس بالحق، بين الله الغاية من خلق الإنس والجن. وهي العبادة بمفهوميها الشعائري والمعاملاتي. وعليه فمقاصد العقلاء، وأولوياتهم: أن يحرصوا على ما يحقق الغاية التي خلقوا من أجلها، إرضاء للخالق، لا إرضاء للمخلوق، والاستمساك بالثوابت العالمية الإسلامية وهي: العمل بالقرآن، ولغة القرآن والعلم والبيان، وأخوة الإيمان.
وإذا كانت الغاية الحياتية للإنسان العبادة، فإن العبادة بمفهومها العام (كل عمل نافع صالح) وبمصطلحها الخاص (الشعائر الدينية)، وأن الأصل فيها اتباع ما شرع الله سبحانه وليس اتباع عادات الأجداد، فلا ينبغي للمسلم أن يقيد نفسه بالعادات على حساب أحكام العبادات، ولا أن يحدث الهرطقات والمذهبيات. ولفهم الصواب من الخطأ أنزل الله الكتاب والميزان هو القرآن والسنة، وما أجمعت عليه الأمة، من عهد الصحابة وإلى اليوم؛ وأن الدعوة إلى العبادة بما شرع الله سبحانه، فرض واجب، حكم به الله، والذين خالفوا الشريعة وتاهوا بين التقاليد والأهواء، ولم يتبعوا الكتاب، قال فيهم الله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ﴾ [الشورى:21]، فبعض الناس شرعوا لأنفسهم ما لم يأذن به الله، وفي ذلك خروج عن المقاصد الشرعية، وأنهم يُحاسبون، ويُسألون، ويقال لهم: من أمركم بهذا؟ كما أخطأ بعض اليهود، وبعض النصارى. وقد عُوتِبَ المشركون وعوقبوا بسبب اتخاذهم أوثانا شرعوها لأنفسهم، وتقاليد تقمصوها بالهوى، وبسبب تمجيد عادات آبائهم على الدين الذي شرعه ربهم، قلدوا بغير علم ولا فهم، وبغير عقل ولا نقل، ففضحهم الله شر فضيحة، لتركهم منهاج الحق في القرآن، واتباع طرق الشيطان. ﴿وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف:23] وتدبر قول الله تعالى: ﴿قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا﴾ غالبا ما يكون المعارضون للدعوة الإسلامية، والمحتجون بالتقاليد المخالفة للدين هم المترفون، وهم الملأ الأغنياء بالمال، أو بالجاه، ومناصب الشهرة في المجتمع، إذا كانوا على غير فقه في الدين. بينما الطبقة المتوسطة والفقيرة هم أول من يسلم، ويتبع ويطيع، إلا من قال الله تعالى فيهم عن قوم فرعون. ﴿وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الزخرف:51]، فرعون طغى وكفر بالرسول موسى عليه الصلاة والسلام، لماذا؟ غره مُلْكُ مصر، والسيطرة على العبيد. قال تعالى: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ﴾ [الزخرف:54]، وكذلك قارون غره المال، فخسف الله به وبداره الأرض.وهامان الذي غره السلطان واستخفه الشيطان، فنسي أنه إنسان خلق ليعبد الرحمان. وكذلك أبو جهل وعتبة وأبو لهب فخسروا دنياهم وآخرتهم. لماذا يقص الله تعالى علينا قصص فرعون ونمرود، وكل المكذبين من قوم عاد، وقوم لوط؟ ذلك للاعتبار، يا أولي الأبصار.
فالموعظة لمن لا يزالون يخالفون شريعة الله التي شرعها لعباده، ولا يزالون يقولون ما قاله المكذبون: ﴿إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف:23]. والذين مازلوا يهجرون القرآن، ويفتنون أهل الإيمان، ومنهم كثير من أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، الذين اتبعوا أحبارهم ورهبانهم.﴿اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة:31].
وقد علم الناس أن وضع الشريعة إنما هو لحفظ مصالح العباد، من أجل أن يحيوا لله عابدين، وأن يعمروا الأرض بالخيرات متعاونين، وأن يأتوا يوم القيامة فائزين. وما أصابهم الشقاء إلا لتركهم العمل بالشرع؛ ومصالح الناس قوامها هذه الكليات الخمس: النفس، والعقل، والنسل، والدين، والمال. والناس يخطئون عندما يفصلون بين هذه المقاصد، أو الكليات، فيريدون المال بغير دين، ولا عقل، وبعضهم يريدون الدين بغير مال ولا عقل. وبعضهم يريدون أن يحافظوا على أنفسهم، ونسلهم، بغير دين ولا عقل أيضا. وإذا قلنا الدين، قلنا الشريعة، وإذا قلنا الشريعة، معناه: القرآن، والحديث، والإجماع. لنكون على عقيدة سليمة، وعبادة شرعية مما شرعه الله تعالى، وأخلاق، ومعاملات، كل هذا موزون ومضبوط بالوحي. تريد أن تتاجر، أو تتزوج، أو تقيم مشروعا، لابد من التأصيل بالوحي، لقوله تعالى: ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام:106].
فقد ثبت يقينا أن الناس على هذه الأرض صنفان، مسلمون منهاجهم واحد، وغايتهم واحدة، وأولوياتهم واحدة، يتبعون ما أنزل إليهم من ربهم. وصنف آخر من الناس غير مسلمين، منهم الكافرون، والمشركون، والمنافقون. ماذا يعني هذا الكلام؟ يعني أن من اختار غير الإسلام ويريد الدنيا ولا يعمل للآخرة، فليعلم بأن هذا ليس من حريته، وإنما من إرادته التي يحاسب عليها. ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ﴾ [آل عمران:85]، أي أن الله خلق الإنسان ليكون مسلما، فإن رفض الإسلام فقد كفر، والكافرون هم أصحاب النار.﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.﴾ [البقرة:38/39].
قال محاوري: هذا القانون معلوم عند جميع الناس، بأن الدين واحد، وأن من رفض الدين كان من الكافرين، ما الفائدة من تكرار تبليغه؟ وعندنا أولويات بيت المقدس، وكل فلسطين، وعندنا الذين يتحدثون عن الهوية الوطنية، وشخصيتنا الجزائرية الإسلامية، ومتى تستيقظ هذه الشعوب العربية من غفلة هجرانها للغة العربية، لغة القرآن، ومازال الكثير يُسَيِّدون اللغات الأجنبية على اللغة الوطنية الإسلامية في العالم الإسلامي، لغة كتابنا، ولغة نبيا، ولغة حضارتنا، ولغة كياننا، ولغة مستقبلنا، حتى وإن استعملت بعض الشعوب لسانها على حساب لسان كتاب ربها ولغة نبيها، كإخواننا في تركيا مثلا، وأندونيسيا وغيرهما،كان الأولى أن تكون اللغة الوطنية الأولى عندهم كمسلمين هي العربية، حبا بحب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلما وحضارة، بما أنزل الله تعالى. ولو فهم الناس عامة، والعالم الإسلامي خاصة حقيقة وجودهم في هذه الدنيا لتبين لهم بكل وضوح طريق الحق، واستقامت أمورهم، وسعدوا بشريعة ربهم، وبدعوات نبيهم عليه الصلاة والسلام، الذي دعا ربه سبحانه وتعالى، حيث قال: [وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم] (م.2889)، فقط يعبدون الله تعالى بما شرع لهم، وأن يتحدوا ولا تحاربوا بينهم. وأن يعملوا بأولويات المقاصد. قال: ما هي الأولويات؟ الأولويات هي الأصول والفرائض، قبل الفروع والنوافل. وهي الثوابت الكلية الشرعية، قبل المتغيرات العاداتية. ومن ثوابت الشعوب الإسلامية، أولا: ثوابت عقدية.1 ـ أن الدين هو الإسلام، وأن يكون خالصا لله تعالى كما أكمله الله سبحانه، وبلغه رسوله عليه وعلى آله الصلاة والسلام. 2ـ أن العبادة والحلال والحرام، وكل ما يجب فعله من مصالح الدولة أن يؤصل بالقرآن. 3 ـ أن القرآن الكريم كما هو في المصاحف الرسمية مصدر التشريع. 4ـ العمل بكل ما جاء في الكتاب. 5 ـ أسوتنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. 6ـ الانتماء للإسلام، بغير مصطلحات محدثة لم تكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فتقول: أنا مسلم، أو أنا من المسلمين. ثانيا: ثوابت اجتماعية. العمل بقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات:13].
1ـ أصل كل الناس في نسبهم، وعرقيتهم، وأجدادهم، يعودون إلى آدم عليه السلام، فلا مزايدة لعربي على عجمي، ولا عنصرية، ولا قبلية، ولا طائفية عرقية.
2ـ أكْرَمُ الناس هم المتقون، والمتقون هم الذين يطيعون الله تعالى في كل ما أمر، ويجتنبون ما عنه نهى وزجر، ويعاملون خلق الله بالخلق الحسن الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
3ـ أن لا تفرق بين المسلمين في القارات الخمس العادات والتقاليد المحلية، الخاصة ببعض المناطق في العالم الإسلامي. قد تكون للأندونيسيين عادات خاصة وذكريات محلية، وقد تكون لليمنيين تقاليد ومناسبات، ولكن الثوابت تبقى هي الثواب الثابتة، والمسلمات للعالم الإسلامي، تجمع كل المسلمين. من هذه الثوابت والمسلمات، الأخوة الإيمانية، والقرآن، والشريعة، ومن الثوابت والمسلمات الحضارية للعالم الإسلامي علوم القرآن، واللغة العربية، والتكافل الاجتماعي، والعلمي، والدفاعي، والاقتصادي. ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً﴾ [آل عمران:103].