طلب العلم وعي بسنن التسخير ونهج لتحقيق التغيير
محمود حرشاش*/
كان مفتاح الرسالة المحمدية إلى الإنسانية هي “اقرأ” مبينة في ذلك أن نقلها من عالم الجهل والظلمات إلى عالم الأنوار لا يكون إلا بالعلم، ولعل هذا ما أدركته الحركة الإصلاحية في العالم الإسلامي، بعدما جثم الاستعمار طويلا على هويتها الثقافية والجغرافية، فامتد ت أنوار الإصلاح على مدار العالم الإسلامي، بداية بمحمد عبده وانتهاء بالشيخ ابن باديس الذي تلقفها من خلال تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وتكفي الكلمات الواردة في تسميتها على روح رسالتها حاملة أنوار العلم أمام ظلام الجهل، متخذة سبيل السنن القرآني والهدي المحمدي في فهم الواقع وصناعة الإنسان والأمم، هذا ما جعلنا نقف أمام دور الجمعية في إذكاء رسالة العلم في المجتمع الجزائري إبان ظلام المستعمر، مستدعين في ذلك مبادئها في التشجيع على طلب العلم والاهتمام برسالة أهله متسائلين عن راهن العلم في حياتنا، وواقعنا من خلال رسالة الإدراك والوعي بسنن التسخير من أجل استكمال رسالة الأجداد في تحقيق البناء والتغيير.
طلب العلم بين الفعالية الرسالية والمبادئ التربوية
لقد سعت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من أجل تحقيق رسالتها، والغاية التي وجدت من أجلها وهي السعي للحفاظ وبعث الهوية الحضارية الإسلامية، التي طالما حاول المستعمر الغاشم طمس هويتها والقضاء على كل أبعادها والسعي باضطهاد أفرادها، ولعل هذه الرسائل التي آمن بها أفراد الجمعية قبل الإعلان الرسمي عن تأسيسها في ماي واحد وثلاثين تسعمائة وألف، والجمع بين المسعى العلمي والتربوي وهذا ما جاء في رسائل الاجتماعات التي كانت تقيمها بنادي الترقي قبل تأسيسها الرسمي والذي كان من نتائجه الإيمان بإنشاء المدارس الحرة العربية والإسلامية باعتبار أن طلب العلم مرتبط بالمدرسة وأن طبيعة المدرسة تحدد لنا مآل طبيعة المتعلم وهويته العلمية والحضارية مؤمنين أن طالب العلم الجزائري لابد أن يستعيد فعاليته العلمية ولعل هذا ما جاء في أحد أبيات الشيخ ابن باديس في دعوة النشء، إلى طلب العلم:
يا نشء أنت رجاؤنا وبك الصباح قد اقترب
خذ للحياة سلاحها وخض الخطوب ولا تهب
معتبرا سلاح العلم هو أحد الأسلحة التي تحقق التحرر والتغيير والازدهار والتقدم، دون الإغفال عن المبادئ التربوية من أجل تحقيق المراد وبلوغ الغاية من خلال مجالس الوعظ والإرشاد والفرق الكشفية للشباب والنوادي العلمية والثقافية والمدارس الحرة للبنين والبنات. ويقول أحد المعاصرين في الفكر العربي في تلك الثورة التعليمية التي أحدثها الشيخ عبد الحميد بن باديس بدروسه الحية، والتربية الصحيحة التي كان يثبتها في نفوسهم الطاهرة النقية والإعداد البعيد المدى الذي يغذي به أرواحهم الوثابة، ما كانت مدة حتى كان الفوج الأول من تلاميذ ابن باديس مستكمل الأدوات من أفكار صحيحة، وعقول نيرة ونفوس طامحة، وعزائم صادقة وأسس صقيلة، وأقلام كاتبة، ليمتد أفق هذا التعليم إلى شتى المجالات وشتى ربوع الوطن، مدركين بذلك سبيل بعث القيم ومحاربة المستعمر وأن تحقيق النهضة لا يكون إلا بالتشجيع على طلب العلم والإيمان برسالته، مع المعرفة بالسنن الإلهية في هداية الأنفس وصقل الأفراد وبناء الأمم.
طلب العلم بين التنظير والوعي بسنن التسخير
إن طلب العلم الحقيقي هو الذي ينقلنا من المدارسة إلى الممارسة ومن التنظير إلى العمل ولا يتأتى لنا السبيل إلا بضرورة الوعي بسنن التسخير الإلهي التي وضعها في أنفسنا من سنن الهداية إلى سنن الآفاق والتأييد واستغلال جميع الإمكانات الوجودية التي سخرها الله لنا في هذا الكون، ولا يكون ذلك إلا بالإحاطة والدراية بسننها وقوانينها وكيفية الاستفادة منها، وذلك لا يحصل إلا بالجد في طلب العلم والتوجيه السليم نحو معرفة هذه السنن في الطبيعة والعمران والتاريخ والأديان والأنفس والأرواح والمجتمعات والأفراد من أجل تحقيق الغاية من الصيرورة الاستخلافية في عمارة الأرض من أجل بلوغ رسالة الشهود الحضاري لهذه الأمة، فالإحاطة بسنن المعرفة وقوانين العلم وحده من يحقق الريادة بين المجتمعات والأمم.
طلب العلم من التنظير إلى التغيير
لا بأس أن نعود هنا إلى نموذج جمعية العلماء المسلمين ورجالها الإصلاحيين وتلامذتها المتقدين والذي يمكن اعتبارهم من الرعيل الذي جمع بين النظر والعمل، واستطاع أن ينقل المجتمع الجزائري من براثين الجهل والأمية إلى أفق العلم والإنسانية وأن حقيقة التغيير في روح المجتمع وبنائه والتحرر من الاستعمار وقابليته لا يكون إلا بزرع روح العلم والمعرفة في شبابه، ولعل هذا ما يجب أن يؤمن به طالب العلم في راهنه، رابطا في ذلك عالم سنن الشهادة في المعرفة والآفاق والنفس والهداية كما يقول أستاذنا الطيب برغوث ويشير إلى ذلك في كتاباته ضمن مشروعه آفاق الوعي السنني بأن أي خلل في إدارك هذه السنن وتطبيقها هو خلل في رسالة ومنطق التغيير وقوانينها، وأن خط التكامل والصعود والتألق يقتضي الوعي العميق بهذه السنن، شريطة أن يدرك طالبنا أن رسالته في عالم الشهادة مربوطة بعالم الغيب فخروجه لطلب العلم هو خروج طلب شهادة وتأييد وعبادة، وأن طلب العلم الذي يغير كما أشار إلى ذلك أستاذنا مالك بن نبي في شروط النهضة هو الذهاب نحو المنطق العملي والعلمي التطبيقي لما يحمله من إرادة وانتباه بعيدا عن السعي وراء التجريد والنطر لأن ما ينقص أمتنا هو العلم الأول وليس بقدر ما هو في العلم الثاني.
رسالة إلى طالب العلم في يوم العلم
لابد لطالب العلم أن يكون منطلقه بأن العلم جهاد في سبيل الله وعبادة يؤجر عليها في الدنيا والآخرة وأن صلاح الأمم وشعوبها لا يكون إلا بتميز طلبتها وإيمانهم برسالتهم الدنيوية والأخروية وأنهم رجاء أوطانهم ومستقبلها، خاصة ما يعيشه العالم من سيطرة التقنية والبحوث البيولوجية غذاء ودواء وفكر وثقافة واعتبارها الدرع الحامي للدول وبالتالي تجبرنا على ضرورة الانفتاح على التخصصات الجديدة، فاختاروا بعناية من تلك التخصصات ما تفيدون به أنفسكم وأوطانكم وما تقتضيه من ضرورة الانفتاح على اللسان العالمي لتحصيل تلك العلوم والمعارف دون الانسلاخ من هويتنا وانتمائنا لأهلنا وأوطاننا وحضارتنا واصلوا في محاربة الجهل بالعلم فقد كانت خاتمة الحياة لأستاذنا حمودة بن ساعي رحمة الله عليه حاربوا الجهل لأن الجهل سبب انحطاط الحضارة وانحطاط الإسلام، وفي عز ظلام الاستعمار كما ينقل لنا أستاذنا عبد الرزاق قسوم فيما بلغه أن الشيخ ابن باديس كان يردد دائما لابد أن نحارب فرنسا الاستعمار بفرنسا الأنوار وصلى الله على نبينا محمد وصحبه الأخيار.
*باحث في طور الدكتوراه
جامعة الجزائر 2