عوائق النهضة: تقديم السيف على القلم

د. بدران بن الحسن *
إن أي موقف أو تصرف يقوم به الانسان يصدر عن رؤية معينة للعالم؛ أي عن مجموعة قناعات وتصورات ومفاهيم وقيم يستبطنها الانسان عند تصرفه، تلقاها بالتربية والتنشئة الاسرية والاجتماعية في البيئة التي يعيش فيها، ومن خلال المعارف التي تلقاها منذ نشأته، حتى شكلت الخلفية المعرفية التي ينطلق منها في حركته في الحياة قولا وفعلا وحركة. وبمقدار وضوح الرؤية وأصالتها وتماسكها فإن تصرفات الانسان تكون متناسقة منهجية وأصيلة.
ولعل مما يعاني منه المسلم منذ «عصر ما بعد الموحدين» – بتعبير مالك بن نبي- هو عدم وضوح الرؤية، ولهذا تضطرب عنده المواقف؛ الفردية والجماعية، سواء ما تعلق منها بالتاريخ أم الواقع أم المستقبل. ولذلك فقد المسلم فعله المنهجي المؤثر في واقعه، وانزوى على هامش التاريخ الذي تصنعه أمم أخرى.
ولعل أكثر ما يعاني منه المسلمون اليوم هو عدم الاكتراث بقيمة الفكرة وأهمية المعرفة وضرورة العلم في صياغة سياساتنا ومشاريعنا والعمل على تحقيق أهدافنا في مستواها المحلي أو الأممي الذي يشمل الأمة جميعا، بل والعالم. فتجدنا ننطلق بردود أفعال سريعة وقوية ولكن سرعان ما تخبو عند بعضنا، أو تتحول على مشار جلد للذات، بسبب عدم تأسيس مواقفنا وافعالنا على أساس علمي متين، وعدم قيام اعمالنا على الخبرة العلمية التي وصلت غليها البشرية اليوم؛ سواء في إدارة الصراع مع الخصوم، او في تحقيق مشاريعنا التنموية داخل دول ومجمعات امتنا.
وصار شعارنا «السيف اصدق إنباءً من الكتب»، بدل أن يكون شعارنا «الرأي قبل شجاعة الشجعان»، وذلك لأن الكتب والرأي تستلزم بناء هادئا، وبذلا متطاولا من الجهد، وصبرا على تقليب الأمور على وجوهها، لبناء القرارات والمواقف على الوعي البصير. وهذا التغليب للسيف على القلم، يعد واحدا من عوائق نهضتنا، وموانع تحقيق أهداف أمتنا في مستوياتها المختلفة؛ فرديا ومحليا وعالميا.
إن هذا لواقع مر، غير سوي، ناتج عن رؤية مشوهة، مقلوبة، جعلت أمتنا تضحي بالغالي والنفيس، تضحيات باهظة، ولكن ثمرات تلك التضحيات إما معدومة أو ضئيلة، أو أن المرتزقة يقومون بسرقتها وتحويلها إلى رصيد مضاد لتطلعات الأمة، أو أن أعداءنا يتسللون بلباس التقوى والوطنية والحمية الإسلامية ظاهرا، ولكنهم سرعان ما يقطفون الثمرة دون الأمة.
وذلك بسبب تجاهلنا لقيمة القلم؛ قيمة الفكرة والمعرفة والتخطيط والتنظيم ومراعاة سنن الله التي تقوم عليها الأعمال والمشاريع. مع أن تاريخنا حافل بالدروس التي تؤكد أولوية القلم على السيف، وأولوية الرأي على شجاعة الشجعان، وأولوية اقرا على جاهد وقاتل وأنفق …ألخ.
ولنضرب لذلك مثالا، ليتبين لنا كيف كان قادمة الأمة على وعي بأهمية العلم والمعرفة في التمهيد للسيف وللمنجز المادي. يذكر الباحث الفلسطيني عباس دياب في دراسة له عن أهمية صناعة المعرفة في حماية القدس وفلسطين وتحريرهما من الغزاة، أن الناصر صلاح الدين الأيوبي دخل الدين بيت المقدس صبيحة الجمعة (27 رجب 583هت/2 أكتوبر 1187م) معلناً تحريره من الصليبيين بعد احتلال دام ما يقرب من تسعين عاماً، كانت تلك العقود التسعة مليئة بالإعداد المعرفي والكفاح والجهاد؛ فوقف مخاطباً القادة والجنود المنتصرين من جيشه قائلاً: «لا تظنوا أني فتحتُ البلاد بسيوفكم، إنما فتحتها بقلم القاضي الفاضل»، في إشارة واضحة إلى أهمية ومكانة المعرفة والإعداد المعرفي، وأنه يجب أن يسبق كلاً من الإعداد السياسي والعسكري.
ولكنه ينبه على وضعنا اليوم بأن الأمة تعاني نكبة معرفية، حيث أننا «صرنا نفكر ونتصور ونخطط بعقول أعدائنا للأسف الشديد، فما أحوج الأمة إلى ثورة معرفية تُسقط بها تلك النكبة. ما أحوج الأمة اليوم إلى تحرير العقول حتى تتحرر معها المقدسات والأوطان». وهذه النكبة المعرفية التي أشرنا على أنها بسبب تفضيل السيف على القلم، جعلنا نعيش فجوة كبيرة بيننا وبين خصومنا وأعداء أمتنا. فقد تفوق علينا المشروع الصهيوني في صناعة وعي العالم حول بيت المقدس، فصار العالم يتبنى الدراسات الإسرائيلية والاستشراقية التي تتبنى بكل عام وجهة النظر الصهيونية، وصار إنتاجهم الأكاديمي المعرفي أضعاف إنتاجنا الأكاديمي والمعرفي، بل وأصبح بمثابة المصدر والمرجع ليس للعالم فقطن بل صار مرجعا لأبناء المسلمين أيضا فيما يتعلق بالقدس وفلسطين ومعركة الامة لتحريرها من الغزاة.
إن ما ذكره الأستاذ دياب يؤكد أن هذا العائق من عوائق التحرير والنهضة، ينبغي أن نواجهه بمعركة المعرفة والوعي. لأن الأمة التي تريد تحرير أرضها ومقدساتها، لابد وأن يخوض أبناؤها معركة المعرفة والوعي قبل معركة الساعد والسلاح. وأن الإعداد المعرفي لابد وأن يسير جنباً إلى جنب مع الإعداد السياسي والإعداد العسكري، بل ويجب أن يسبقهما، والتاريخ يشهد بذلك.
فلم يكن فتح بيت المقدس في صيف العام 16 ه/ 637 م على يد الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه نتيجة حصار لبضعة أشهر، أو حتى نتيجة جهاد بضعة أعوام، وإنما كان نتاج لسنوات طويلة من الإعداد المعرفي والتخطيط والجهاد معاً، خطة بدأها الرسول صلى الله عليه وسلم، بنفسه؛ بدايةً من وضع خطة استراتيجية للفتح، والإعداد المعرفي وربط الصحابة ببيت المقدس روحياً ودينياً وسياسياً وعسكرياً، ثم جاء الخليفة أبو بكر الصدِيق رضي الله عنه ليُكمل ما بدأه الرسول صلى الله عليه وسلم، ويجيش الجيوش ونصب عينيه بيت المقدس، وسارَ الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ذات النهج، وواصل الجهاد حتى فتح الله على يديه بيت المقدس بعد خمس سنوات من وفاة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
وتكرر الأمر نفسه في الفتح الصلاحي 583 ه/ 1187 م، ونستطيع القول بأن الفتح الثاني لبيت المقدس وتحريره من الصليبيين كان ثمرة حركة معرفية متكاملة وإعداد معرفي طويل، ونشر الوعي بين أبناء الأمة، قام به ثلة مباركة من العلماء العاملين، أدى ذلك الإعداد إلى إحداث التغيير شيئاً فشيئاً أثناء فترتي السلطان عماد الدين زنكي والسلطان نور الدين محمود حتى تُوجَ بالفتح والتحرير على يد السلطان الناصر صلاح الدين.
ولا شك أن معارك أمتنا العسكرية والسياسية والتنموية والعلمية، كلها ينبغي ألا تستهين بأهمية المعرفة بكل مجالاتها، وألا تكون هذه المعارك خلواً من سند معرفي، لأن المعرفة هي التي تحقق الغلبة والتمكين، وإلا فإن كل ما نقوم به يبقى ردود أفعال سرعان ما تنتكس.
وعلينا أن نعيد للرؤية الإسلامية استواءها على اقرأ، لتثمر فعلا مؤثرا في التاريخ، يستعيد لأمتنا فعاليتها، فتحرر نفسها من الاستعمار والقابلية للاستعمار، وتحقق الحضور والشهادة على الأمم.
*مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية/ جامعة قطر