تطاول نصر حامــــد على أبي حامد

أ.د. عبد الملك بومنجل/
بادر نصر حامد منذ مقدمة كتابه “مفهوم النص” إلى رفع ادعاء عريض واتهام كبير: أن الغزالي قد حول القرآن من “نص” إلى “مصحف”، من دلالة إلى شيء، فأبطل وظيفته الاجتماعية إذ عزله عن الواقع والثقافة.
وحين نتابع تفاصيل هذا الاتهام لأكثر علماء الإسلام شهرة وأكثرهم حضورا في ثقافة الأمة وأوفرهم حظا من الإجلال والتقدير نجد الأمر متعلقا بأمور ثلاثة وهي:
-فصله الحاد بين الدنيا والآخرة. -تصوره الطبقي للمجتمع بتقسيمه إلى خاصة وعامة. -تأويله الباطني الصوفي للقرآن الكريم.
أما اتهامه بالفصل الحاد بين الدنيا والآخرة فيستند إلى نصوص تضمنت الحديث عن”حقارة الدنيا وخستها وكدورتها وانصرامها, وعظم الآخرة ودوامها وصفاء نعيمها وجلال ملكها” وعن كون الدنيا والآخرة “كالضرتين مهما أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى”، وأن معرفة الله، باعتباره المقصد والغاية من خلق الدنيا والآخرة، هي أجل العلوم وغاية الغايات. ولا أدري ما وجه الاعتراض على هذا التصور، وهو ليس تصور الغزالي بل أظهر بديهيات الكتاب والسنة، وأكثر المقولات ترددا في الخطاب الإسلامي بأسره بدءا بالنبي صلى الله عليه وسلم مرورا بالصحابة والتابعين! يقول نصر حامد:
“لم تعد الغاية من الوحي تأسيس مجتمع وبناء واقع يقوم النص فيه بدور المرشد والهادي، بل صارت الغاية هي الوصول إلى المطلق عبر فك شفرة النص ورموزه. لم يعد الإنسان عضوا في مجتمع حي متفاعل بل صار وحيدا في المطلق إما عارفا متوحدا، أو جاهلا محجوبا، وصارت حياة الإنسان رحلة للوصول إلى المطلق وصارت الدنيا طريقا للسفر”.
إذا كان الإسلام، كما تقدمه نصوصه، هو منهج للسفر إلى الله عبر طريق التعبد الواسعة في الحياة الدنيا، وكان الغزالي يعبر عن هذا التصور الإسلامي الأصيل الواضح الذي يؤمن به العلماء والدَّهْماء، فعن أي دين يتحدث نصر حامد؟ أي دين هذا الذي هدفه تحقيق الوجود الأمثل للإنسان وحسب؟ لن يكون هذا الدين هو الإسلام بحال. لأن الله لم يقل أنه خلق الإنسان ليعيش وحسب، وأوحى إليه بشرعه لتستقيم له الحياة الرغدة الطيبة في كنف العدل والحرية والسلام ثم كفى. لا إن هذا تصور علماني مادي بحت، أما الإسلام فهو يقول بكل وضوح: {وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلا ليَعبُدون} (الذاريات: 56). أما اتهامه بالتصور الطبقي والتفسير الباطني فهو يستند إلى تقسيمه علوم القرآن إلى طبقة عليا لا يصل إليها سوى الخاصة، وهم “أولو الألباب”، وطبقة سفلى لا يستقيم الدين والدنيا إلا بها، وهي متاحة لعموم الناس على درجات متفاوتة. ومن ثم تقسيمه الناس إلى خاصة قد أخلصت مسيرها إلى الله وانقطعت بكل كيانها الروحي عن الدنيا، فهي لا تأخذ منها غير الضرورة، وعامة هم سواد الناس يؤمنون بالتقليد ويخلطون بين التعلق بالدنيا والعمل للآخرة، وقد شاء الله أن لا تستقيم الحياة الدنيا ولا تزدهر علوم الدين إلاّ بهم، فكأن الله سخرهم لهذا الشأن، فمنهم من لاحظ له سوى ما كسب في الدنيا، ومنهم من يأخذ من نعيم الآخرة على قدر عمله وإخلاصه..
وهذا تصور إسلامي صحيح تثبته النصوص ويؤكده الواقع، ولا نعرف وجها للاعتراض عليه، سوى أن الانقطاع إلى التبتل مبالغة في التعبد، ورهبانية لم يكتبها الإسلام علينا، ولا شيء يدل على أن أبا حامد يدعو إلى هذا الانقطاع السلبي عن الدنيا وعمارة الأرض، ولو فعلها هو لما بلغنا من جهده هذا الكم الوفير من التأليف وهذا العلم الغزير في مختلف شؤون المعرفة.. ولكن نصر حامد يحلو له أن يتعالم أمام الغزالي فيقول معلِّما: “ولو أدرك الغزالي أن (الفقر) و(الكفر) غالبا ما يلزم ثانيهما الأول، ولو أدرك أن (أهل الدين) في حاجة إلى الحد الأدنى من مطالب الحياة لأدرك أن العيب الأساسي كامن في ثنائيته، أو في ثنائياته، وفي تحويله لوظيفة الدين وغاية الوحي”.
لا بل لو أدرك نصر حامد أن الغزالي أذكى قلبا، وأوسع علما من أن يجهل العلاقة بين الفقر والكفر، وأنه أدرى بمعاني الفقر والكفر، وحد الفقر الذي يفضي إلى الكفر، وأنه لم يقل قط بأن السائر إلى الله مستغن عن الحد الأدنى من ضرورات المعاش لأدرك أن العيب الأساسي هو في فهمه هو لوظيفة الدين وغاية الوحي، وفهمه هو أو موقفه المتشنج من الإمام الغزالي.