الحصاد النكد…
يكتبه د. محمّد قماري/
قبل سنوات صدر في فرنسا كتاب من تأليف الأديب الفرنسي بيار باشيت (Pierre Pachet)، وصنع المؤلف لكتابه عنوانا لافتا للانتباه: (قبالة أمي)، ومضى يتحدث عن أمه المريضة بـ(الزهايمر)، ويرسم لها صورة تهز الوجدان، يقول بيار:
« كنت أردد وأنا بعدُ طفل صغير: أريد البقاء مع أمي، ولا أرضى بالانفصال عنها ولا أن تبتعد هي عني؛ وكان بعض معارفي يذكرني بما كنت أردده، عقب انتهاء الحرب مباشرة، سواء بقصد تحريك مشاعري أو للسخرية من نزعة أبديتها آنذاك في الاستقلال عنها.
واليوم لن أستطيع أن أكون معها، ولا حتى بجانبها أو في محيطها، ففي الوضع الذي آلت إليه، أقصى ما أتمناه حين زيارتها أن يمضي وقت الزيارة وهي تنظر إليَّ، حتى وإن لم تعرف على وجه التحديد من أنا، وأن تسمح لي بأن أكون أمامها، وأن أحدثها عسى أن أوقظ فيها بعض القدرة على الحديث، وأن أقدم لها الطعام.
أنا أعرفها، وأنظر إليها، وأستمع لما تقول؛ وعلى الرغم مما كان بيننا باستمرار من توطئ على الضحك والسخرية، فإن كل ذلك قد تلاشى بالكامل تقريبا، وأشعر أنني قُبالة صورة قديمة جدا، أمام تمثال قليل الحركة لكنه قوي ومهيب»…
ومرض الزهايمر باختصار، مرض يجعل من المريض الذي كان ملء السمع والبصر، فقد يكون رئيسا كـ(رونالد ريغن)، تجعل منه شخصا لا يهتدي إلى باب منزله، ولا يعرف أسماء أبنائه، فالإنسان ذاكرة وذكريات، يعيش بماضي قد ولى وحاضر يحيا فيه، ومستقبل يستشرفه، فإذا فقد ذاكرته تحوّل إلى كائن فاقد لمعالم الزمن، دون حنين يربطه بما مضى وأمل يحثه على قطع ما تبقى من عمره…
والأمم كالأفراد في هذا المجال، تعيش بذاكرتها، يقرأ فيها جيل اليوم (تاريخ) الأمس، ويؤسس عليه في استشراف مستقبله، وتلك هي الحركة العاقلة على محور الزمن، ومن دأب الغزاة والمستعمرين أن يعملوا على مسخ ذاكرة الشعوب التي تقع تحت قبضتهم، فإن لم يستطيعوا طمس كل الذاكرة اكتفوا بتشويهها والقاء الشبهات عليها، وتلك هي سيرة (المذبذبين)، الذين يتزعزع ولاؤهم، فتجده على تلك الصورة التي رسمها الأديب (بيار باشيت) لأمه، كتلة من لحم ودم وحركة في غير اتجاه مدروس…
هذا ما يجعل كثير من الساسة الفرنسيين يرددون، أن الجزائر لم تكن قبل الاحتلال شيئا مذكورا، ونسوا أن ما نسجته مخابرهم من مسخ في حق الإنسان الجزائري طيلة قرن وثلث قرن، لم يؤت أكله، وأحسن وصف لجهود تلك المخابر هو ما قاله المفكر (ألبير ميمي) واصفا تلك الجهود بالمسخ (Acculturation) بمعنى تحويل الشعوب المستعمرة إلى كائنات (لا ثقافية) حتى لا يقول حيوانات !
ذلك هو الحصاد النكد الذي راهنت عليه فرنسا في الجزائر، وظنوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا، فإذا بالفتنة تطل برأسها، والفتنة هنا هي فتنة الاستعمار على أيدي المجاهدين الأخيار الأطهار، ومن معاني الفتنة أن يرمى بتراب المعدن في النار حتى يخلص منه الذهب، لقد خاب ظنهم، وأصبحوا ينظرون إلى ما أنفقوا من جهود وأموال، فكانت عليهم حسرة ثم غلبوا !
والآن، تسعى بقايا الاستعمار وأذنابه التي لم تقطع، يسعون إلى ضرب الذاكرة من جديد، حتى بلغت الوقاحة ببعضهم أن يسأل: هل الجزائريون نادمون عن (طردهم) للاستعمار؟
وفي ذلك المسعى ذهبوا إلى خلط الحق بالباطل، ودس السم في العسل، في إحلال برهان بالتراجع، فالمؤكد أن دولة الاستقلال لم تحقق كل ما كان يرجى منها، وأن مسيرة الستة عقود فيها مطبات كبيرة، وأن كثيرا من (الطلقاء) الذي استفادوا من عفو الاستقلال، لم ينسوا حنينهم للثدي الذي تغذوا عليه، لكن ما قيمة كل ذلك أمام مشروع استعماري ناسف؟
إن مسؤولية أجيال اليوم تتمثل في معرفة هذه الحقائق مجردة عن ملابسات (واقع) قد لا يكون ما يتطلعون إليه، لكن من الرعونة أن يرمي الإنسان بالطفل مع ماء الغسيل، من الرعونة ألا يميز الإنسان بين ما يجب فعله لتغيير واقعه ومرتكزات ذلك الواقع، ممثلة في الوعاء الجامع الذي استرده الآباء بالدم والدموع والمعاناة، استردوه من بين أيادي لا تألوا فينا إلا ولا ذمة…
إن دوام الحال من المحال، ويجب أن نبتهج ونفرح أن منَّ الله علينا بثلة من الأخيار، أخرجوا الاستعمار مدحورا صاغرا، فإن تكونوا تألمون من بعض تفاصيل الحاضر فإنهم يألمون من عقدة (الفردوس المفقود)، ولن يدخروا جهدا في افساد أفراحنا، فهل نحن واعون لخطط هواة الحصاد النكد؟