إذا تشابكت دموع في عيون…تبين من بكى ممن تباكى.
مداني حديبي/
(ولقد كنت أجلس مع أولادي الساعات، وكأنني لست منهم وليسوا مني، وكأنني بينهم لا أسمع ولا أعي، لأنني إذ ذاك أفكر في مقال للبصائر، أنفض عليها سواد ليلي لتكون في الصباح مع المطبعة..).
هذه كلمات بليغات صادقات للشيخ البشير الإبراهيمي يختصر فيها حالته مع الكتابة في جريدة البصائر وحبه الشديد وشغفه العظيم وحرصه الدقيق وذوبانه العميق وتواضعه الكريم.. لدرجة أنه ينغمس تماما فينسى أولاده وفلذات أكباده وكأنه لا يسمع مرحهم و لا يعي ما يقولون وما يفعلون… لأنه يفكر في كتابة مقال جديد لجريدة البصائر..
بحيث يقضي الليل كله إلى الصباح ليكون المقال بديعا متميزا يتنفس مع الصباح في المطبعة بيانا وبركة ونورا وعبيرا.
إنه ميلاد المقال البصائري عند أمير البيان.. فناء وخشوعا وتضحية وتجردا ونزيفا وصدقا..
وكان بإمكانه وهو من هو، فصاحة وتدفقا وسليقة، أن يكتبه في دقائق معدودات لكنه يريده أن يقتات من لحمه ودمه ووقته وكله.. فالكلمات كعرائس الدمى الخرساء..
متى تنفخ فيها الروح وتدب فيها الحياة ؟!..
إذا اقتاتت من لحمنا ودمنا وعشنا بها ولها… وكأني به يجسد حكمة ابن عطاء: تسبق أنوار الحكماء أقوالهم، فحيث صار التنوير وصل التعبير كل كلام يبرز وعليه كسوة القلب الذي منه برز، من أُذِن له في التعبير، فهمت في مسامع الخلق عباراته وجليت إليهم إشاراته.
قارن بين حال أمير البيان في الكتابة الصادقة البديعة النازفة وبين الكتابات الباهتة الجامدة الخامدة المتعثرة المبعثرة.
ذلك أن الشيخ البشير الابراهيمي يمنح قلمه كل شيء.. جهده ووقته .. إلى درجة الفناء.. لأنه لا يريد أن يكرر غيره ولا أن يكرر نفسه بحيث تكون كتاباته حارة دفاقة تطرق الحديد وهو ساخن وتربي الأمة بالأحداث المتجددة..
وغيره يعطي كلماته فضول الأوقات وهوامش الاهتمامات.. فتخرج جافة كالحة منفرة.. تجتر نفس الكلمات العارية من كسوة القلب والروح والواقع.
شتان شتان بين الأم الثكلى والنائحة المستأجرة..
لهذا قيل: لما أرادت دودة الحرير أن تنسج، جاءت العنكبوت تتشبه، فنادها لسان الحال الفارق:
وكل يدعي وصلا بليلى… وليلى لا تقر لهم بذاكا
إذا تشابكت دموع في عيون… تبين من بكى ممن تباكى.