اليد الـممدودة والغاية الـمقصودة
أ.د. عبد الرزاق قسوم
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/
لا أدري لماذا طاف بي طائف الذكرى، فأعادني، وأنا أهمّ بكتابة هذه الافتتاحية، إلى أيام السبعينيات من القرن الماضي، ليستوقفني عنوان: «أغنية شعبية» ذاع صيتها آنذاك، وأصبحت على كل لسان، وذلك العنوان هو: «هذي يدي ممدودة».
نجحت هذه الأغنية لاعتبارات عديدة لعل أهمها:
1. أنها كتبت بلغة عربية فصيحة، خلّصت الذوق من اللغة الهجينة التي أفسدت الذوق العربي آنذاك.
2. أنها دعوة إلى الانفتاح على الآخر بالحب والتسامح، والتطلع إلى بناء المستقبل السعيد.
3. الاعتماد على اليد الممدودة، التي ترمز إلى المصافحة، والمصالحة، والمصارحة.
ثم أحالتني هذه الأغنية بقيمها إلى عمق الأدب العربي، حينما ذكرتني بقصيدة عصماء، قيلت في وصف تجسيد تمثال بشري لأحد العظماء، وقد عُلّق ظلما على شجرة، فخلّده الشاعر بقصيدة رائعة، وممّا جاء فيها:
عُلوّ في الحياة وفي المماة لحقا أنت إحدى المعجزات
كأن الناس حولك حين قاموا وُفودٌ نَداك، أيامَ الصِّلات
كأنك قائم فيهم خطيبا وكلهم قياما للصَلاة
مددت يديك نحوهم احتفاء كمدهما إليهم بالهِبات
إن فلسفة اليد الممدودة في مقابل اليد المغلولة، قيمة من قيم الفكر الإسلامي، من خصائصها الانفتاح، والتسامح ولمّ الشمل.
وإذ يُلوَّحُ هذه الأيام في السياسة، باليد الممدودة، ولم الشمل، فإن ذلك يعتبر إحياء لتجارب وطنية عشناها وآتت أُكلها.
وإن لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين اليد الطولى في مد اليد النظيفة والعفيفة للبناء والإعلاء، مع المؤالف والمخالف.
فإمامنا عبد الحميد بن باديس، يعود إليه الفضل في مد اليد لبناء الشمل عام 1936، حين أخضع الواقع الوطني للتحليل والتعليل، فوجد أن أكبر سلاح يواجه به الغطرسة الاستعمارية إنّما هو مدّ اليد للم الشمل والدعوة إلى مؤتمر يجمع كل الفاعلين في الساحة الجزائرية، من أحزاب، وهيآت وشخصيات، لذلك، أوثر عن الإمام ابن باديس قولته المشهورة فيما بعد: «كَوِّنوا جبهة وطنية لا يكون التفاهم إلا معها».
ثم جاءت نكبة فلسطين في عام 1948، فانبرى الإمام محمد البشير الإبراهيمي إلى التصدِّي لها، ومد اليد لبناء الجبهة الوطنية لنصرة فلسطين، تضمّ كل الأحزاب، وقد نجح في ذلك.
ثم قام العالِم الشهيد الشيخ العربي التبسي عام 1951، فمد اليد هو الآخر لتكوين «جبهة الدفاع عن الحريات العامة» والتي ضمت الأحزاب الجزائرية الفاعلة.
وجاء جهاد نوفمبر الخالد فجسَّد اليد الممدودة، لبناء جبهة التحرير الوطني التي انضوى تحت لوائها كل جزائري مخلص أيّاً كانت قناعته، وأيًّا كان اتجاهه.
واليوم إذ يُرفع شعار اليد الممدودة، ومحاولة لم الشمل، فإن هذا الشعار يجد عمق تجسيده في عمق التجارب الوطنية السابقة واللاحقة.
فهذه اليد الممدودة اليوم، كي تحقق غايتها المقصودة، يجب أن تصافح المؤالف والمخالف، وأن تُعلى قيمة الإخاء، دون أي إقصاء.
كما نأمل أن تتوج المساعي بتجسيد ميثاق شرف يلتزم به الجميع، وينبثق عن منتدى «لم الشمل» الذي يُوكل إليه أمر إخضاع التجربة التنموية الجزائرية للتقييم والتقويم وتقديم الناجع من الدواء القويم لكل ما هو عليل وسقيم.
ولنا في ما قدمته جمعية العلماء في محنة الوباء، خير دواء، فقد تميزت الجمعية باليد الممدودة، بالدواء، والكساء، والغطاء، والغذاء، إلى كل من أصابه الداء، فكان مثلا للاقتداء، وحسن الإخاء.
كما لنا في تجارب الأمم الأخرى خير مثال على ذلك، فالزعيم الأمريكي «أبراهام لنكولن» صاحب الدفاع عن حقوق السود في أمريكا يقول: «إذا أدرتم أبصاركم في تاريخ الوطن ووجدتم أن لي فيه يدا تذكر، فالفضل في ذلك يعود إلى الذين كانوا يخالفونني، لأنهم كانوا سياطا خلفي، وضوءا أمامي».
ويقول المثل الفرنسي: «استمع جيدا لصديقك المخلص، الذي يبكيك عندما يقول لك الحقيقة، وناقش فورا الذي يخالفك في الرأي أو في القناعة».
وقديما قال الشاعر العربي:
عِداي لهم فضل علي ومنّة فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا
هم كشفوا عن زلتي فاجتنبتها وهم نافسوني، فاكتسبت المعاليا
وصدق الله العظيم في قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} (سورة الجاثية، الآية18-19).
هذه إذن عبارات وعبرات قَلم مسنود بيد ممدودة نحو الخير، بما يعود بالنفع العميم، والخير القويم، للجزائر الجديدة التي يتوق إليها كل المخلصين من أبناء هذا الوطن، وإن علي إلا البلاغ، فاللهم فاشهد.