في رحاب الشريعة

آداب وعظات وأصول في إصلاح ذات البين وطرائق الحلول

أ. محمد مكركب/

 

ورد البيان أن إصلاح ذات البين فريضة واجبة على المتخاصمين وعلى أولي الأمر معا، قال الله تعالى:﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ وقال تبارك وتعالى:﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ وعلمنا أن سيدنا محمدا خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم نهى عن الهجران والتقاطع والعداوة بين المؤمنين. فعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:[لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ، يَلْتَقِيَانِ: فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ](البخاري:6237).
1 ـ آداب مجلس الصلح: فبخصوص الخصومة بين الزوجين، قال الله تعالى:﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾ (النساء:35). فمجرد نية العمل بما أمر الله، عن صدق ويقين، تتحقق الغاية، بإذن الله عز وجل، إنْ يُرِدِ الحكمان إصلاحا يوفق الله بين الزوجين، وإنْ يُرِدِ الزوجان، إصلاحا وصدقا فيما أخبرا به الحكمين، يوفق الله بينهما. فالنية والإخلاص مشروطان في الحكمين والزوجين معا. والخطاب في قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ﴾ أي توقعتم، وظهرت شرارة النزاع، فالخطاب موجه للأمراء والأولياء، يكون الواجب على الأولياء بداية، إن رأوا ما يثير بداية الخصام، وجب عليهم العمل بالآية، فإذا بلغ الخبر أولي الأمر كالقاضي، وجب عليه الأمر بجلسة الصلح كما أمر الله تعالى. قال الله تعالى:﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ وخافت بِمَعْنَى تَوَقَّعَتْ، ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ ظاهر اللفظ يقتضي أن الصلح الحقيقي وهو ما تسكن إليه النفوس، وتطمئن به القلوب، ويزول به التشاجر والتنازع. هو: خير من الفرقة وتشتيت أمر الأسرة، فإن التمادي على الخلاف والشحناء من قواعد الشر.
2 ـ آداب العفو والصفح: قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾. قوله تعالى:﴿فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ﴾ قال ابن عباس: مَنْ تَرَكَ الْقِصَاصَ وَأَصْلَحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الظَّالِمِ بِالْعَفْوِ، ﴿فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ أَيْ: إِنَّ اللَّهَ يَأْجُرُهُ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: فَكَانَ الْعَفْوُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وهذا أصل كبير في الصلح، يجهله المعاندون، والذين لم يكن إيمانهم كاملا.
فالمتقون يعفون ويصفحون ويُصْلِحون ولا يَحْقِدون، ويعملون بما أمر الله تعالى، ومما أمر الله به:﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾(البقرة: 237). قد يكون الطرف الثاني ظلمك، فاعف، واصفح، وقد يكون الطرف الثاني أخذ مالك ثم قال أخطأت في حقك فاسمح لي، فاسمح، واعف، واصفح، وقد يكون الطرف الثاني خانك، أو خدعك، وجاءك مسامحا، تائبا، فاعف، واصفح، واعمل بموعظة الله تعالى:﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾.
قد تسمع أن فلانا، أو فلانة اغتابك، وقال عنك كلاما يؤذيك، وربما قذفك، ووصفك بالسوء، وربما قال عن أهلك كلاما قبيحا، وأصابك الأذى الشديد من الشائعات والأراجيف التي روجها واتهمك بها من الأباطيل، ورغم ذلك فالعفو من شيم الكرام،. قال الله تعالى:﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾(النور: 22).
3 ـ آداب العفو السياسي: ذلك أن كبير القوم يتواضع ويتنازل. قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم:﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾(آل عمران:159).
ومجال الأخطاء التي يجوز لإمام الأمة أن يعفو عن مرتكبيها هي ما يخص شخصه ومصالحه الخاصة. أما حقوق الرعية فلا يجوز للقاضي، ولا لولي أمر المسلمين أن يعفو عن الظالمين، إنما صاحب المظلمة هو الذي يسمح ويعفو. أما الحاكم فلابد من استرجاع الحقوق لأصحابها، وفي الحدود لابد من القصاص، لا عفو عن السارق عمدا، ولا عن القاتل عمدا، ولا عفو عن الزاني، والقاذف، ولا عن المجرم الذي يختلس من المال العام. فعن عائشةَ رضي الله عنها، أنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا] (البخاري:3475).
قال أبو بكر يوم ولي الخلافة:{والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه، والقوي ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، إن شاء الله تعالى}(تاريخ الخلفاء: 27).
4 ـ آداب واسطة المحسنين في إصلاح ذات البين: من طرائق الحلول الممكنة والنجعة لإنهاء الخصومات والنزاع أن يبادر أهل الإحسان بالصفح والمال إن لزم الأمر، فمن أبواب الجهاد بالمال إصلاح ذات البين بين المتنازعين. فكم من رجال الإصلاح بادروا فأصلحوا بين طوائف وشعوب دامت الحرب بينهم سنين. بمكن حتى لدولة أو دول تبادر وتتدخل بالخير والتوسط بالإحسان لتصلح بالمال والموعظة.
5 ـ اجتناب الحواجز التي يتسرع إليها المتنازعون بالغضب والقلق: الوصية للمسلمين والمسلمات بأن لا يتسرعوا في جدالهم ومناقشاتهم وخصوماتهم مع بعضهم، أن لا يتسرعوا إلى الحلف، أي القسم، فبعض الناس عندما يناقش خصمه تجده يتسرع للحلف، بأن لا يفعل كذا، وأن على الطرف الثاني أن يعطيه كذا، وإلا كذا. والله تعالى يقول:﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ ورغم ذلك ففي الحديث [مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ] وكفارة اليمين إطعام عشرة مساكين. يشترط إطعام عشرة أفراد، ومقدار الإطعام مدان (نصف صاع من القوت الأساس كالقمح والشعير والتمر). أو كسوة عشرة أفراد، فمن لم يجد الإطعام والكسوة ينتقل إلى كفارة صيام ثلاثة أيام.
ويُنْصَحُ الزوجُ المتخاصم أو الذي تَسْتَفِزُّه زوجته وتغضبه، يُنصحُ بأن يصبر ويُصابر ويتحكم في نفسه ولا يتلفظ بكلمة الطلاق. وكذلك الزوجة بأن لا تطالب بالطلاق. فكلمة الطلاق لا تقال إلا أمام الحكمين أو أمام القاضي.
6 ـ العفو والصفح والتسامح دليل قوة وبطولة وانتصار، وليس ضعفا أو انهزاما كما يظنه بعض العامة من الساذجين، فتذكروا موقف يوسف عليه السلام مع إخوته بعد الذي فعلوه معه، وتذكروا قرار النبي محمد صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة يوم الفتح بعدما فعلوا ما فعلوا. وتذكر:﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com