أول عالم النفس جزائري يتذكّر أيام طفولته في تلمسان
أد. مولود عويمر/
يجد القارئ في هذه السلسلة نصوصا قديمة متجددة حررها العلماء والأدباء الجزائريون حول قضايا عصرهم واهتماماتهم العلمية والأدبية والفكرية والسياسية الوطنية والعالمية. وحوت هذه النصوص المرجعية للفكر الجزائري المعاصر معينا غزيرا يغرف منه الباحثون المشتغلون على تاريخ الجزائر في القرن العشرين والدارسون لذخائر تراثنا. وألتزم هنا قدر الامكان بنشر الآثار المغمورة أو المتداولة بشكل محدود لننفض الغبار عنها ونحيي جهود أصحابها الذين لم ينصفهم دائما الباحثون لأسباب مختلفة. وأمهد في كل مرة بترجمة موجزة لصاحب النص، وبيان سياقه العام وعرض مختصر لمضمونه، وتعريف مقتضب للمصدر الذي اقتبست منه، وهي في غالب الأحيان عبارة عن جرائد ومجلات قديمة تعتبر في حد ذاتها وثائق مغمورة أو نادرة.
صاحب هذا المقال هو الدكتور أبو مدين الشافعي رائد من رواد الفكر التربوي وعلم النفس في العالم العربي والإسلامي، ولد في مدينة تلمسان في عام 1921، وتوفي في يوم 25 فبراير 1958 في القاهرة. درس في تلمسان اللغة العربية وحفظ جزءاً من القرآن الكريم، وحضر دروس الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في دار الحديث. سافر أبو مدين إلى مصر في عام 1938 لمواصلة دراساته العليا بجامعة فؤاد الأول بالقاهرة حيث تحصل على شهادة الماجستير ثم الدكتوراه في علم النفس في عام 1947. فهو أول جزائري ينال شهادة الدكتوراه من جامعة القاهرة. عمل بعد تخرجه أستاذا لعلم النفس بجامعة القاهرة، كما فتح عيادة للعلاج النفسي في القاهرة وأخرى في بيروت. وفي مجال التأليف الأكاديمي، أصدر الدكتور أبو مدين الشافعي مجموعة كتب في تخصصه العلمي، والتي أصبحت مقررة في المعاهد والمدارس في مصر والشام والعراق.
كتب هذا المقال المرفق وهو مقيم بالقاهرة، ونشره في العدد الثاني (ع 2، رجب 1366 هـ / ماي 1947) من مجلة «العبقرية» التي أسسها الشيخ عبد الوهاب بن منصور في مدينة تلمسان، وساهم في تحريرها نخبة من الكُتاب الجزائريين والمغاربة والتونسيين. أما صاحب المجلة، الشيخ عبد الوهاب بن منصور فإنه ولد يوم 17 نوفمبر 1920 بمدينة فاس بالمغرب، وتوفيّ في مدينة الرباط يوم 12 نوفمبر 2008. تقلد مناصب إدارية سامية منها مدير الوثائق الملكية. وله مؤلفات عديدة أذكر منها: «أعلام المغرب العربي»، في عدة أجزاء.
وقد تناول أبو مدين الشافعي في المقال الآتي ذكريات طفولته في مدينة تلمسان قبل رحلته إلى مصر في عام 1938. وهي تجربة عايشها عدد من المثقفين الجزائريين الذين كانوا يعيشون في بيئة فرض فيها المستعمِر قوانينه ومنطقه على كل مجالات الحياة غير أن المجتمع الجزائري قاوّم الاستعمار وحافظ على بنيته الاجتماعية وفعّل منظومته القيمية، فتغلب على كل المعوّقات، وانتصر في النهاية في معركة الوجود وكان في طليعة المقاومين المعلمون المخلصون لرسالة التربية والتعليم.
*** *** ***
«تلك أيام تتوغل في مدافن الماضي، وتلك أيام تطل من آفاق المستقبل، وتفصل بين ذلك الماضي المتباعد، وبين ذلك المستقبل المجهول إنها أزهر أيامي الحافلة باكتشاف لذات العطف العائلي كانت في تلمسان، رأيت فيها النور، واستنشقت الهواء، وتمتعت بحنان الأم، وأفدت من رعاية الأب، وتبادلت الحب الأخوي .. والخصومة الأخوية الجميلة. هناك كونت أصدقاءً أخلصوا لي، وساعدوني، فكنت ألين تارة وأقسو تارة أخرى، كانت أعواما لا أياما، وكانت حياة لا فترة من حياة. تركت تلمسان على كره، خرجت مرددا قول الشنفری:
لعَمرُكَ ما في الأَرضِ ضيقٌ عَلى اِمرئٍ سَرى راغِباً أَو راهِباً وَهوَ يَعقِلُ
سری پسري، أي خرج ليلا، فخرجت في ليل من الخفاء والنهار منتشر، سریت وستار رباني يحيط بي لأني خرجت مخلصا لا أبغي شرا لإنسان ولا أحمل حقدا على إنسان، خرجت لأن العلم يقهر نفوسا فيعذبها كما يتعذب مدمن الخمر ويخضع لها، فتتحكم فيه وتسيّره وتسخّره، وتضعف إرادته وتزله إلى مرتبة عابد الوثن …
تلك إرادة العلم الذي حببنى فيه والدي منذ نعومة أظفاري، فكان يجبرني على حضور مجالس العلم التي كانت تجذبه وتصرفه من مجالسة الأهل … كانت أمي تتحدث ونحن أطفال صغار عن الفقيه الحرشاری وعلمه وسماحته، وكانت تتحدث عن علماء تلمسان: فكان والدي يحضر مجالس العلم ويأتي فيقضي وقته معها في نقل ما سمعه من علم، وفهمه من حکم، وكان شأنه معنا كما كان شأنه معها، فكان يرغم أعضاء العائلة على الاندفاع نحو التعلم، ولعلها كانت نعمة إلهية، إذ حرم والدي من التعلّم الكتابي، فدفعه ذلك إلى التعلّم بالسّماع.
وهكذا فتحت عيني وأنا أحضر مجالس الحاج أحمد بوعروق، وأسمع الحديث والتفسير ولا أزال أذكر سمعي وبصري، وأتخيّل المجلس في جامع سيدي الجبار، وقد جلس الشيخ على مقعد متاز بشيء قليل، واجتمع حوله رجال فضلاء، حافظوا على عهد الآباء، واستمروا في الدرس رغم كل أحداث الزمن، وصعوبات العيش التي تعترض كل إنسان تحمل أعباء الأسرة والأولاد. أتخيل الشيخ وهو يشرح (رب العالمين) ويستعرض أجزاء العالم، وقد انطوى تحت كل جزء عالم واسع، فكان يسأل: والناموسة عالم؟ فكان المجلس كله يردد في حرارة المجتهد. عالم! ويعود الشيخ يسأل: والنحل عالم؟ عالم! والنمل عالم؟ – عالم! إلى آخر العالمين.
وكنت أذهب إلى المجلس، وأحط نظارة من الورق الشفاف تقليدا للشيخ أحمد، وألقى درسا بعد الغذاء أو العشاء، وكان الدرس سهلا، فكنت أسألهم عن النمل والنحل هل كلهم عالم؟ فكان الجميع من الطلاب ومنهم والدي يجيب: نعم! تذكرت ذلك كله وأنا ألقى درسا في علم النفس متكلما عن مظاهر الحياة في الإنسان والحيوان، وكان الدرس في كلية الطب بجامعة فؤاد الأول بين مئات من إخواني المصريین، وكان والدي حاضرا، فجمعت الماضي بالحاضر، وكان والدي الكريم حلقة الوصل بين الدرس الأول في داره وبين الثاني في دار الجامعة.
وكانت المرحلة الثانية في التعليم بين جدران جامع صغير تحت جامع سيدي اليدون فكنت هناك أيام قليلة، وكان النطق منحرفا وقاسيت مع تلميذ كبير كان يرغمني على نطق الطاء الراء لا لاما ولا ياء هي الرحمان لا اللحمان ولا اليحمان يكافح معي ولم يصل إلى نتيجة في الأيام الأولى، ووصلت بعد ذلك تحت تأثیر ملاحظاته القيمة وهو لا يعلم ثمرة جهوده وغاب عني في الماضي البعيد، وعجزت ذاكرتي عن اكتشاف صورته وهو ولا شك موجود تحت جدران تلمسان يتمتع بالصحة والعافية مجهولا مغمورا لا يعرفه قرائي ولا أصدقائي في مصر والعالم العربي.
رجعت عن الدروس شاکیا من صعوبتها وأني لا أفهم ما يراد بي في الجامع يرغموني على أن أنطق بطريقة تروقهم وأنا لا أعرف كيف أسلك حتى تخرج الحروف مطابقة للنحو الذي يریدونه هم ولا أريده أنا. ورجعت إلى المنزل أجري وأصرخ، أزبد وأرعد، أضرب وأكسر، وكانت أمي رحمها الله تصبر تارة وتضيق تارة أخرى، ولكنها كانت تحب وتعطف، فتجري لتبعدني عن النار، وتجرى لتأخذ السكين من يدي وتجرى لتخلص شعر أختى من يدي أو تخلص لمم أختي من أسناني ولم أكن وحشیا فحسب بل كنت أكثر من ذلك کله.
كنت طفلا مدللا وأنتهى بها الأمر إلى الشكوى ورفعت القضية إلى رئيس العائلة الأعلى فجمع المجلس وتشاور الأعضاء و تبادلوا الرأي وأنا في أشد حالات الحزن وأدق أزمات القلق لا أدري ماذا سيكون المصير. وخالج نفسي الندم والألم وطغت علي حسرة ما بعدها حسرة حقا لقد كنت مخطئا، لقد انكسرت كل الاكواب، وانشقت أغلب الاطباق فتلك حجج قوية تشهد على سلوك غير لائق من طفل تحبه أمه ويدلله والده، وكان هذا الأخير أمام الشكاوی يحار، لأنه كان يميزني بحب خاص.
وكنت أشغل من قلبه المكان المختار، فكيف يكون الحل، آلقسوة التي استعملها مع الكل أم الين الذي يوجبه العطف، فكان ينظر إلى بعيد، وينسی حبه ويقسو على نفسه بلوم شديد يوجّهه لي، فيرفع صوته ويهدّد، وقد تتحرك يده بدافع من الغضب ودافع من الرحمة لتخرج ضربة فيها القسوة التي شعر بها كل منا في ذلك الوقت، وفيها الرحمة التي نشعر بها الآن معا.
وأخيرا جاء القرار، وهو الرجوع إلى الجامع، فاسودت الدنيا في وجهي، وشعرت بالألم، ولو حكموا عليّ بالإعدام لما ضجرت منه كما ضجرت من الحكم علي بالرجوع إلى الجامع، ولكن الله رحیم، فألهمها إلى أن تصنع لي «سروالا» فراقتني الفكرة، وعدلت الفكرة، وأرجعت التوازن النفسي، لأني كنت أحلم دائما أن أكون «مسرولا».
وبالفعل أحضرت سروالا كبيرا لأكبر إخوتي وأخرجت منه عددا كبيرا من السراويل، وأعتذر عن عدم الدقة في تحديد العدد، لأني لم أكن أعد إلى أكثر من خمسة، لكن للقارئ المفكر أن يفهم أن سروال أخي تحوّل إلى أكثر من خمسة سراويل.
وكانت هي أيضا عريضة لا «قعدة» فضفاضة ليمكّن لمختلف الأرباح على اختلاف مصادرها أن تلعب فيها ويختلط بعضها ببعض، فيطغى الطيب على الخبيث داخل السروال، فلا يشعر الآخرون بشيء، وتتم العملية في سلام وفي سر، لقد أوصينا بالقول: استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان. والسروال أحسن سلاح يساعد على الكتمان ولذلك فرحت فرحا كبيرا يوم تمَّ تفصيل أول سروال. وكان العيد الأكبر يوم اكتماله وقياسه.
وبعدما كنت أرهب يوم الرجوع إلى الجامع ابتدأت أشعر بفارغ صبر وزيادة قلق من بُعْد هذا اليوم الذي سأرتدي فيه سروالا أسود له أقفال بعضها أسود وبعضها الآخر أبيض. وله جيب يحمل مدة وجيزة ما سيحمله البطن بعد حين….
تم كل ذلك وتسرولت وذهبت إلى جامع بجوار المنزل وهو المسمى بجامع الشرفاء وكان عدد التلاميذ قليلا في الأول، واعتنى بي سيدي الداودی فعلمني الحروف بنفسه، ولم يعوّل على كبير من النجباء، فدخلت بذاك في حظيرة المتعلمين، وقطعت المرحلة الاولى في التعليم، وحفظت کلمات قليلة من القرآن. يمكن لحافظ القرآن أن يكتشفها وراء سواد الحبر أو «السماق» كما يسمي في دولة الجوامع.
ومنذ ذلك الحين ابتدأت الكفاح الطويل. وقضيت الايام كلها منذ الصباح إلى الغروب في الكتابة والحفظ. وكنت أضيق في كثير من الأحيان. فأظل أهز رأسي وأنظر إلى اللوحة وأرفع صوتي وسط تلك الأصوات، ولكنني لا أحاول أن أحفظ، وهذا سر عجيب لاحظته على نفسي فنفعني في هذه الأيام في اكتشاف أسباب الألم عند أشخاص کثیرین، وذلك أن بعض النفوس تخطو كل الخطوات المؤدية إلى مرحلة النهاية، وتقف في هذه المرحلة ولا تنتهي، فكنت أتحمل كل الأتعاب الجسمية والمادية، ولكني لم أكن أنتبه، ولم أكن أحفظ، وكنت أجد الحل وقت الإختبار أو العرض، فلا أتقدم إلا في الوقت الذي يكون فيه المعلم في حالة تعب، فلا يهتم ولا ينتبه، ويسمع القليل في الأول، ثم يكتفي فيأمرني بالمحو أي الإستعداد للدرس الجديد.
وهكذا انتقلت من معلم إلى آخر، ووالدي يلح في وجوب حفظ القرآن، فحفظت النصف وضاع من النصف نصف، وتلاشى الباقي شيئا فشيئا، ولم يبق مع الأسف إلا القليل. ولكن الذاكرة التي استعملت في هذا العمل الطويل اكتسبت قدرة أفادتني في موضوعات أخرى وساعدت على الاحتفاظ بمعلومات فهمت أو معلومات أثارت إنتباها، فلا أدعي أن تلك الجهود ضاعت لأنها كانت جهودا تقوم على إخلاص وترمي إلى غاية مقدسة، وفي تلك الأثناء اتخذ مجلس العائلة قرارا آخر، وهو الذهاب إلى المدرسة الفرنسية واختاروا مدرسة «ديسيو» فی منطقة (عرعار)، بعدما فشلنا في مدرسة أخرى في سيدي بوجمعة كانت تختار أنبه الأطفال وترفض من تبدو عليهم الغباوة والجمود. ولعلها كانت تعوّل في مقياسها على «السروال».
وذهبت إلى المدرسة الأخرى الخاصة بضعاف العقول المغلوبين على أمرهم. واتصلت بمسيو بخشي. وكان رجلا فاضلا يحب تلامذته رغم ما كانوا يغزونه به من رائحة كريهة تصعد منهم وقت التعب وبعد الجهد في الفهم، وكان رحمه الله كلما تصاعدت غازات كريهة في الجو يكلّف أنجب تلامذته بإکتشاف المصدر من بین الثلاثین تلميذا الجالسين في هدوء، ولسان حالهم يستنكر، وکان پهتدي في بعض الأحيان إلى الشخص فيخرجه، وفي بعض الأحيان لا يهتدي فيخرج هو لحظة يجدّد فيها التنفس.
إنني لن أنسى هؤلاء المعلمين الذین کافحوا في الخفاء، وأذكر دائما جهود أمثالهم الذين يرمون الأساس في أعماق النفس ويحتملون أصعب المشقات في الظلام ووراء الستار، فإلى كل الذین علّموني في الصغر تحية عميقة، واحترام واسع الأطراف، واعتذار عما تحمّلوه من أتعاب.