وراء الأحداث

حقائق جديدة عن جرائم الدولة الفرنسية

أ. عبد الحميد عبدوس/

ذكرت وكالة الأنباء الفرنسية (أ.ف.ب) يوم الاثنين 6 جوان الجاري (2022) نقلا عن موقع (ميديا بارت) الفرنسي أن الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول أحيط علما بمجزرة 17 أكتوبر 1961 في باريس التي راح ضحيتها مئات الجزائريين، لكنه أبقى المحافظ موريس بابون والوزراء المسؤولين المرتبطين بحدوث المجزرة في مناصبهم، حسب ما كشفته وثائق الأرشيف الذي رفعت عنه الحكومة الفرنسية السرية بعد أكثرمن ستين سنة على وقوع مجزرة نهر السين. وأظهرت وثائق الأرشيف أن مستشار الجنرال ديغول للشؤون الجزائرية، برنار تريكو وجه له مذكرة بتاريخ 28 أكتوبر 1961 أحاطه فيها علما بأنواع القتل العمدي الذي تعرض لها المتظاهرون السلميون الجزائريون بقوله إن: «بعضهم أغرقوا، وآخرين خنقوا، وآخرين قتلوا بالرصاص. وقد فتحت تحقيقات قضائية. وللأسف من المحتمل أن تفضي هذه التحقيقات إلى اتهام بعض ضباط الشرطة». ومع تكشف هول المجزرة الدموية وتعمد قوات الشرطة استخدام أبشع أساليب القمع والتنكيل ضد الجزائريين في باريس وجه المستشار تريكو مذكرة ثانية بتاريخ 6 نوفمبر 1961 لرئيسه لشارل ديغول جاء فيها: «يبدو أنه من الضروري أن تتخذ الحكومة موقفا في هذه القضية، عليها مع سعيها لتجنب الفضيحة قدر الإمكان، أن تظهر لجميع الأطراف المعنية بأنه لا ينبغي القيام بأشياء معينة ولا ينبغي السماح بحدوثها»، ورغم أن الرئيس شارل ديغول أجاب خطيا بقوله: «يجب إلقاء الضوء على ما حدث وملاحقة الجناة». لكن لم يتم في الواقع ملاحقة أي شرطي في إطار هذه المجزرة، أو معاقبة المسؤولين الحكوميين المشرفين على مجريات المجزرة ،بل تم الإبقاء على وزير الداخلية (روجيه فري) في منصبه ،وهوأحد عتاة المستعمرين المؤمنين بشعار «الجزائر فرنسية»، وكذلك تم تثبيت موريس بابون الذي جرت أعمال القتل في 1961 تحت سلطته باعتباره محافظ باريس.
وبالتمعن في حقائق جرائم الاستعمارالفرنسي في الجزائر طوال قرن وثلث قرن من الزمن، فليس من المستغرب أن يصدر هذا الموقف المتستر على الجريمة والمتورط مع منفذيها من رئيس فرنسا الاستعمارية شارل ديغول الذي تميزت سنوات حكمه لفرنسا الاستعمارية بوقوع أكبرالخسائرالبشرية في صفوف الجزائريين فعندما عاد ديغول إلى سدة الحكم في باريس عام 1958، كان على رأس قائمة أهدافه القضاءعلى ثورة الشعب الجزائري ،فأعطى لجيشه مهلة سنتين لتصفية الثورة بمختلف الوسائل، وضرب سورا حديديا حول حدود الجزائر،لمنع وصول السلاح إلى أيدي الثوار، وبدأت مرحلة جديدة من المجازرالمروعة والمرعبة والأعمال الوحشية والهمجية،والانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان، ولعل هذاما يؤكده المؤرخ الفرنسي، بنجامين ستورا الذي قال: «إن الفترة التي قاد فيها الجنرال ديغول فرنسا،كانت الأكثردموية في الجزائر، بتسجيل 140 ألف شهيد سقطوانتيجة المخطط الذي وضعه ديغول لقمع الثورةالتحريرية». غيرأن تاريخ القمع الإجرامي الذي مارسه الجنرال ديغول لم يبدأ بعدعودته إلى حكم فرنسا في سنة 1958 فحسب، ولكنه يمتد إلى أقدم من ذلك،حيث كان المسؤول الأول عن المجزرة الرهيبة التي اقترفتها فرنسا الاستعمارية في حق الشعب الجزائري خلال مظاهرات الثامن ماي 1945، فقد قامت الحكومة العامة الفرنسية في 12 ماي 1945م بالإبلاغ عن برقية أرسلها ديغول مؤكدا فيها: «رغبة فرنسا المنتصرة في عدم السماح بالمساس بسيادة فرنسا بالجزائر»، وطالب باتخاذ الإجراءات اللازمة لقمع كل السلوكات المعادية لفرنسا والتي تقوم بها أقلية من المحرضين حسب قوله. بعد هذه المجزرة التاريخية للجزائريين المنتفضين سلميا في 8 ماي 1945م أرسل الحاكم العام الفرنسي في الجزائرلقائده الجنرال ديغول ببرقية يقول له فيها: «إن العرب خضعوا بعد إبادتهم». كما لم يكن من المستغرب أيضا أن يستعين الجنرال ديغول بعد عودته إلى السلطة سنة 1958 بخدمات السفاح موريس بابون الذي استقدمه إلى باريس بعد أن كان محافظا لقسنطينة من 1956 إلى 1958، وكان موريس بابون أول من أمر بفتح المحتشدات التي كان يمارس فيها التعذيب بمختلف أشكاله، وفي عهده تم تحويل مزرعة أمزيان إلى مركز نموذجي للتعذيب باستخدام أبشع وأقسى تقنيات الاستنطاق للمناضلين الجزائريين والمتعاطفين مع الثورة الجزائرية، وتقع مزرعة أمزيان التي تعود ملكيتها إلى عائلة حمادي في ضواحي مدينة قسنطينة، استولت عليها الكتيبة 27 للمشاة في شهر أفريل 1958 وجعلتها «مركزالمعلومات والعمليات» تحت قيادة النقيب روديي (Rodier) حيث كان ينشط فيها مجموعة من المجرمين المستعمرين الفرنسيين وعملائهم من الحركى واليهود المختصين في ممارسة التعذيب واستنطاق الأسرى والسجناء، الذين استشهد الكثير منهم رجالا ونساء تحت التعذيب والتنكيل منهم الشهيدة مريم سعدان.
ذكر المؤرخ الفرنسي إيف كوريير في كتبه علاقة السفاح موريس بابون بمزرعة أمزيان، ولكن أول من كتب كتابا عن هذه المزرعة، هو المؤرخ الفرنسي التقدمي، جون لوك اينودي، سنة 1991. رغم كل الجرائم التي ارتكبها السفاح موريس بابون ظل تحت حكم الرئيس شارل ديغول يتقلب في المناصب العليا الإدارية والانتخابية في الدولة الفرنسية، بل لقد ارتقى في عهد الرئيس الأسبق فاليري جيسكار ديستان إلى منصب وزير في حكومة ريمون بار، ولم تتم محاكمته إلا في تسعينيات القرن الماضي وتم الحكم عليه بعشر سنوات سجنا في سنة 1998 بتهمة المشاركة في جرائم ضد الانسانية، ولكن موضوع التهمة أو تسليط العقوبة القضائية عليه لم تكن بسبب الجرائم التي ارتكبها ضد الجزائريين من تعذيب وتنكيل وقتل خارج إطار القانون والإشراف على الإعدامات الجماعية، لكن التهمة وجهت إليه بسبب ما اقترفه ـ حسب القضاء الفرنسي ـ من تهجير قسري لليهود أثناء الحرب العالمية الثانية.
كان يجب انتظار ستين سنة كاملة حتى يعترف رئيس فرنسي هو إيمانويل ماكرون بأن «جرائم لا تغتفر» ارتكبت في باريس ضد المتظاهرين الجزائريين في 17 أكتوبر 1961، واعترفت الرئاسة الفرنسية في 16أكتوبر 2021 للمرة الأولى بـ «توقيف ما يقرب من 12 ألف جزائري ونقلهم إلى مراكز فرز في ملعب كوبرتان وقصر الرياضة وأماكن أخرى. وقُتل العشرات منهم وألقيت جثثهم في نهر السين. بالإضافة إلى سقوط الكثير من الجرحى». ولكن هذا الاعتراف المهم مر دون تقديم اعتذار للشعب الجزائري عن هذه الجريمة النكراء المروعة التي ارتكبت باسم الدولة الفرنسية.
وشر البلية أنه بعد مرورعشرات السنين على استعادة الاستقلال الوطني بعد حرب ضروس دفعت فيها الجزائر ملايين الشهداء لافتكاك استقلالها من بين أنياب الوحش الاستعماري الفرنسي، مازال بعض الجزائريين يقولون أن ديغول منح الجزائر استقلالها كما أن هناك الكثيرمن المثقفين والمؤرخين والسياسيين العرب مازالوا يرددون مقولة أن الجنرال ديغول كان صديقا للعرب.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com