أقزام على أكتاف عمالقة…
يكتبه د. محمّد قماري/
تنسب هذه عبارة (أقزام يجلسون على أكتاف عمالقة) لفيلسوف فرنسي عاش في القرن الثاني عشر ميلادي، هو الفيلسوف (برنارد دي شارتر)، والمقصود منها الاحالة على أهمية اتكاء كل من يطمح في خوض غمار الفكر على أعمال كبار المفكرين ممن سبقوه، ووجدت عبر الأجيال اللاحقة التي تلت عصر (دي شارتر) من احتفى بالعبارة ورددها منهم اسحاق نيوتن وبليز بسكال…
وقبل سنوات قليلة جعل محرك البحث على شابكة الانترنت (غوغل) هذه العبارة عنوانا لصفحته الرئيسية، والعبارة حكمة لطيفة فالخبرات كطبقات الأرض تتراكم وتتراص، وإن كنا اليوم نرى ما لا يراه من سبقنا، فإن ذلك تأتى لا بسبب علو قامتنا بل بفضل جلوسنا على كتف ذلك العملاق الذي سبقنا، وربما أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في وجوب تضامن الأجيال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر/10)…
والتنكر لتراث الأقدمين لا يضاهيه في الفداحة إلا الوقوف عند منجزهم، بوصفه نهاية التاريخ وآخر خط في مضمار الاجتهاد والصواب، فالاتكاء على أكتاف العمالقة يعني مد البصر لاستشراف المستقبل، والقدرة على فرز الأفكار الحيّة من ذلك التراث واعادة بعثها، وتجاوز الأفكار التي انتهت بملابساتها الزمانيّة والمكانيّة واستخلاص العبر منها، ثم ردمها كما يردم الانسان بقايا شعره أو أظافره، فهي قد كانت جزء حيا منه قبل زمن قريب، لكنها اليوم بقايا ميته ومؤذية…
ولقد ابتلينا في واقعنا العربي والإسلامي بفصلين من البشر، يتفقان في البنيّة العقلية ويختلفان في الظاهر، فصيل جعل من نفسيه (وصيا) على الحداثة، وكل بضاعته التنكر لتراث الأقدمين والطعن فيه، ويسعى إلى تجديد الدين واللّغة والشمس والقمر على حد قول مصطفى صادق الرافعي، رحمه الله؛ وفصيل يسعى إلى استحضار الماضي بوصفه (خير القرون) بملابساته وأدواته، واجتهاداته وخلافاته وبكل تفاصيله، ويلبسها لباس الدين ليجعل منها الحق الذي ما وراءه إلا الضلال…
ومن هذا القبيل علت أصوات فصيل آخر أو (المفسرين الجدد) لنصوص الدين، يجمعون فيها كل ما شذّ من آراء الفرق القديمة، وآراء المضللين من المستشرقين، فباسم النزعة القرآنية حينا فهم لا يؤمنون إلا بما جاء في القرآن، فإذا سلمت لهم بذلك، جاؤوك بتفسير (عصري) للنوص يتفلت من قواعد اللّغة وأساليبها، ومن تعاضد النصوص في المبحث الواحد، وهو مسلك قديم عنوانه الايمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة/85).
وقد تنطلي حيلتهم على الأغرار من الناس، حين يطعنون في كتب الحديث الموثوقة منها صحيح البخاري الذي نال من سهامهم النصيب الأوفر، وتغافلوا على حقيقة أن البشرية لم تعرف طيلة تاريخها (منهاجا علميا) يضاهي ما قامت به مدرسة علم الحديث، ووجوب عرض نصوصه على غربال (الرواية والدراية)، و(الجرح والتعديل)، وعلى ضوئهما يبقى الباب مفتوحا لأهل التخصص في المراجعة والتصويب لكن بأدوات العلم لا بمزاج الأهواء…
لقد تحدث الفيلسوف فرنسيس بيكون بحق، عن أوثان أربع تحدق بعقول البشر وتعشش فيها، وأطلق عليه أسماء رمزية وهي: أوثان القبيلة، وأوثان الكهف، وأوثان السوق وأوثان المسرح، ويعني بأوثان القبيلة الأخطاء النابعة من الطبيعة البشرية ذاتها، أي أن مصدرها عقولنا وجهازنا الحسي، كالقول «إن الانسان مقياس كل شيء»، ومن هنا يأتي التباين الذاتي في الأحكام.
أما أوثان الكهف فهي مفهوم يشبه ما يطلق عليه بـ(الهوى) أي الانحياز إلى ما نهواه ومدافعة ما يخالفه، وهو الكهف الصغير الذي حفرناه لأنفسنا في مواجهة العالم الفسيح، وكهف السوق يعني التشويش الذي يأتي بفعل الدعاية وعمليات الاستثارة التي تتلو ما يطلق عبر الاعلان والتسويق الفكري، أي أخطاء الناس حين يجتمعون على رأي، قد يكون مصدره (براح) السوق، ويقصد بأوثان المسرح تلك الأخطاء الناجمة عن التراكم حين يحاول الناس اصطناع تأويلات نسقية للكون والحياة، وهي في الغالب أخطاء المشتغلين بالفكر…
وكم هو محزن ألا ينتبه الناس إلى خطر هذه الأوثان وهي تقودهم إلى الخطأ من حيث ينشدون الصواب، وتجعلهم يسهمون في تعطيل حركية مجتمعاتهم من حيث ينشدون خيرها، و(كم من مريد للخير لن يصيبه)!