حديث والد النبي..في الصناعة الحديثية (5)/ محمد عبد النبي
أخرج الإمام مسلم (1/191) عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عفان عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس [أن رجلا قال: يا رسول الله، أين أبي؟ قال: في النار، فلما قفّى دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار].
وأخرج الإمام مسلم (2/671) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي].
وأخرج البخاري (9/123) ومسلم (2/1136) عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم: […ولا أحد أحبُّ إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين].
تعرّضنا في الحلقات السابقة إلى بعض القرائن الإسنادية التي أزعم أنها نزعت صفة القطع من هذين الحديثين تحديدا، وهو ما يتماشى مع ما ذكره ابن الصلاح وغيره، من أن الأحاديث التي انتُقدت على الصحيحين أو أحدهما لا ينطبق عليها التلقي بالقبول، المفيد للجزم، ويسعف في ذلك أن بعض الأئمة قد عرضوا الأحاديث في صحيح مسلم، تتضمّن مخالفات في المتن لوقائع تاريخية مجمعا عليها، لم تمنع ابن كثير – في أحدها كما مرّ في الحلقة الثالثة – إلى تعليل الحديث بسببها، وجازف ابن حزم في حديث: “عندي أحسن العرب وأجمله… أزوجكها” إلى رمي راويه عكرمة بوضعه ! ووصف الحديث “بالكذب البحت”(انظر: الإحكام في أصول الأحكام: 6/23).
وكان حسبي أن أكتفي بما سبق، لكني وددت أن أُطلع القراء على مسالك للعلماء، حاولوا من خلالها أيضا رفع التعارض البيِّن بين قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}[الإسراء:15] – الذي ينطبق على أهل الفترة، ومنهم والدا النبي صلى الله عليه وسلم- وبين محتوى هذين الحديثين، ولعل أوفق طريق للجمع ما ذكره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي- فيما نُقل عنه في كتاب المجالس (42) حيث قال عن حديث: [إن أبي وأباك في النار]: “إنه ظني الدلالة، يحتمل أنه يعني بقوله: “إن أبي” عمه أبا طالب، لأن العرب تسمي العم: أبا، وجاء بذلك الاستعمال كتاب الله العزيز في موضعين: أحدهما: قطعي المتن قطعي الدلالة، وهو قوله تعالى في البقرة:{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[البقرة:133]، وإسماعيل عمه قطعا، فهو يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم…”.
وبعد أن ذكر الموضع الثاني- ظني الدلالة من القرآن أيضا- قال:”وإذًا فإنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم سأله الأعرابي بقوله: أين أبي؟ وقال له: إن أباك في النار، وولّى والحزن بادٍ عليه، فقال عليه الصلاة والسلام: ردوه علي، فلما رجع قال له: إن أبي وأباك في النار، يحتمل أنه يعني بأبيه: أبا طالب، لأن العرب تسمي العم أبا، لاسيما إذا انضم إلى العمومة التربية، والعطف، والدفاع عنه، والتحقيق في أبوي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهما من أهل الفترة…”(43).
وعند كلمة”آزر” في تاج العروس (1/2454 الشاملة) قال المؤلف: “.. قيل: هو اسم عمّ إبراهيم عليه وعلى محمد أفضل الصلاة والسلام في الآية المذكورة، وإنما سمي العم أبا، وجرى عليه القرآن العظيم على عادة العرب في ذلك، لأنهم كثيرا ما يطلقون الأب على العم..”.
وكان العلاّمة الشنقيطي قد أصّل للأمر من قبل (41) فقال: “قلتُ ما قلتُ- من أن أبويه من أهل الفترة – اعتمادا على نصٍّ من كتاب الله قطعي المتن (يقصد قطعي الثبوت) وقطعي الدلالة، وما كنت لأرد نصا قطعي المتن قطعي الدلالة بنص ظني المتن وظني الدلالة عند الترجيح بينهما، فهذا الحديث خبر آحاد، ومثله حديث أبي هريرة عند مسلم: استأذنت ربي أن أزور أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي، ولكن أخبار الآحاد ظنية المتن فلا يُردّ بها نص قرآني قطعي المتن، وهو قوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}[الإسراء:15]، عندما نوقش الشيخ في المجلس بأن الآية “دليل عام، والأحاديث الواردة في أشخاص معينين دليل خاص، وما أخرجه دليل خاص خرج من العموم، وما لم يخرجه بقي على عمومه داخلا فيه” أجاب بالقول: “.. إن هذا التخصيص لو قلنا به لأبطل ذلك حكمة العام؛ لأن الله تعالى تمدّح بكمال الإنصاف، وأنه لا يعذب أحدا حتى يقطع حجة المعذَّب بإنذار الرسل له في دار الدنيا، فلو عذب أحدا من غير إنذار لاختلت تلك الحكمة التي تمدّح الله بها، ولثبتت لذلك المعذَّب الحجة على الله التي أرسل الرسل لقطعها، كما بينه تعالى في سورة النساء: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}[النساء:165].
وقال العلامة ابن باديس في تفسيره (297): “..فأبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ناجيان بعموم هذه الأدلة، ولا يعارض تلك القواطعَ حديثُ مسلم عن أنس رضي الله عنه…لأنه خبر آحاد، فلا يعارض القواطع. وهو قابل للتأويل بحمل الأب على العم مجازا، يحسنه المشاكلة اللفظية، ومناسبته لجبر خاطر الرجل، وذلك من رحمته صلى الله عليه وسلم وكريم أخلاقه”.
ولأني أُدندن حول مقصَد مفترض للإمام البخاري في إعراضه عن أحاديث يخرجها مسلم وغيره، فإن هذين الحديثين اللذين ذهب غير واحد من المفسرين وشُرَّاح الأحاديث إلى استشكال محتواهما، وتعارضهما مع ما ورد في آيات عديدة – من أن الله لا يظلم أحدا، وأن الله لا يعذب أحدا حتى يبعث إليه رسولا، وأن الكفار يُسألون يوم القيامة: هل جاءكم رسل من ربكم؟ فيردون بالإيجاب، كل ذلك قطعا للحُجج والأعذار، التي قد يشهرها الكفار في الدنيا أو في الآخرة – أقول: فإني أزعم أن هذا التعارض الواضح هو الذي ترك الإمام البخاري يبتعد عن إخراج مثل هذه الأحاديث في “صحيحه”، وفي “الأدب المفرد” الذي يُفترض أن شرطه فيه ليس كشرطه في الصحيح، فلِم يمتنع عن إخراجه فيه، وهو بهذا القدر من الصحة وشروطها؟ إلاّ أن يكون المقصد المشار إليه؟!
ولئن جوّز بعض المحققين إزاحة بعض النصوص الحديثية لمخالفتها ما اتفق عليه المؤرِّخون – كما في حديثي مسلم المشار إليهما – فإن إزاحة نصوص أخرى لحساب قواطع النصوص القرآنية أولى في الاعتبار وأوجب.