ليتفكروا

عوائق النهضــــة: انسلاخ المثقف

د. بدران بن الحسن */

عند النظر في مواقف المثقفين نجد أنهم وقعوا في التشتت في المواقف، كما يقول طه عبد الرحمن. تجاه ما يقع في أمتنا من اهتلاك داخلي، وتجاه التضييق الذي تتعرض له إنسانية الانسان، بسبب انحيازاتهم الأيديولوجية التي صاغتها الرؤية الحداثية وبديلاتها الاختزالية أيضا. وأدى تفرق المثقفين في مواقف شتى إلى نوع من التنافرية الحدية كما يقول الدكتور الطيب برغوث.
إن هذا الاهتلاك الداخلي أو «الفتنة القابيلية» كما يسميها طه عبد الرحمن، التي تدمر نسيجنا الاجتماعي والسياسي وتفكك الأوطان وتقضي على إنسانية الانسان في عالمنا العربي بخاصة، إنما ترجع في جوهرها إلى نظرتنا للعالم، ودور الانسان فيه، ومكانته. وهذه تتشكل في أطر ثقافية تتشكل فيها التصورات والمفاهيم والقيم. مما يتطلب إعادة صياغة للتصورات والمفاهيم والقيم، أي يتطلب عملية تغيير وتحويل لرؤية العالم وإعادة ترميمها، وذلك عن طريق فعل ثقافي عميق.
لأن الثقافة هي المحيط أو الوسط الذي تتشكل فيه القيم الحضارية، وبعبارة بن نبي؛ تعرف الثقافة بأنها «مجموعة من الصفات الخلقية، والقيم الاجتماعية التي يلقاها الفرد منذ ولادته كرأسمال أولي في الوسط الذي ولد فيه، والثقافة على هذا هي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته». والثقافة هي «الائتمان على الانسان الذي هو الكائن الذي حمل الأمانة عن اختيار». وهنا يأتي دور المثقف أو النخبة في تجاوز «الانسلاخ» والارتقاء إلى «المرابطة».
إن ذلك التشتت في الرؤى والمواقف بين المثقفين، وسيادة الرؤية «الاحتيازية» أدى كما يقول طه عبد الرحمن إلى نشأة «المثقف المنسلخ»، الذي يمثل أحد عوائق نهضتنا واسترجاع امتنا لأصالتها القرآنية في حمل الأمانة والشهادة على الناس والاهتداء بهدي محمد صلى الله عليه وسلم في أن تكون أمتنا رحمة للعالمين. إن هذا المثقف المنسلخ انسلخ عن حمل الأمانة التي أوكلت للإنسان، و»تعامى عن «الآيات التكوينية» التي تنطوي عليها ذات الانسان بوصفه كائنا إنسانيا وعالميا، كما تعامى عن «الآيات التكليفية» التي يتضمنها ائتمان الانسان على نفسه وعلى الكائنات الأخرى، بوصف هذا الائتمان مؤانسة ومعالمةً؛ والمثقف الذي يتعامى عن الآيات، تكوينية أو تكليفية، لا يكون إلا مثقفا منسلخا».
وهذا الانسلاخ أوقعه في خيانة ثلاثية الابعاد، كما يرى طه عبد الرحمن؛ خيانة الثقافة، وخيانة الانسان، وخيانة العوالم الأخرى المرتبط بها الانسان. وهذه الخيانات الثلاث التي وقع فيها المثقف وجعلت منه مثقفا منسلخا، إنما ترجع في جورها إلى رؤيته الكونية أو رؤيته إلى العالم. فالمشكلة في جوهرها عند المثقف المنسلخ مشكلة رؤية للعالم، هذه الرؤية الاختزالية، الضيقة، تحد من رؤيته، ومن قيمه، وتحجم فعاليته وعلاقاته بالإنسان وبالعوالم الأخرى، وتنتج أفكارا ومواقف متحيزة ظالمة.
فالعلاقة التي تربط المثقف المنسلخ بالعالم – أي «رؤيته إلى العالم»- ظلت تحجبه عن إدراك القيم التي يوجبها الوقت الراهن، وتمنعه من اتخاذ الموقف المناسب من أحداثه؛ وقد تميزت هذه الرؤية الحاجبة بكونها تجعل علاقته بالأشياء علاقة سعي للتملك والاستحواذ والحيازة؛ والمقصود بذلك هو أن هذا المثقف لا يعقل الأشياء والقيم إلا على جهة إمكانات التملك التي تنطوي عليها، جاعلا من العقل نفسه مِلكا؛ فمثلا، الحق مِلك والعدل مِلك والحرية مِلك، ناهيك عن الأمور الحسية؛ فمعقولية الأشياء هي امتلاكيتها؛ وقد ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن «الحيازة» هي أصل التنازع بين البشر المفضي إلى قتل بعضهم بعضاً، بدءا بالتنازع على الأرض، وانتهاء بالتنازع على الفكر، كما يقول طه عبد الرحمن.
وما قاله طه عبد الرحمن يذكرنا بما ذهب إليه ابن خلدون في مقدمته. فقد عقد ابن خلدون فصلا بعنوان «الفصل الأول من الكتاب الأول: في العمران البشري على الجملة، وفيه مقدمات»، وذكر فيه أن الاجتماع ضروري للإنسان بالطبع، ولكن لا بد له من وزاع ديني أو سلطاني يمنع التنازع بين الناس في حياة المأكل والملبس والمشرب والمسكن.
وهذه الحيازة، المؤدية إلى التنازع كما ذكر ابن خلدون، هي التي يراها طه عبد الرحمن أصلاً في «الفتنة القابيلية» والاحتراب والاهتلاك الداخلي الذي ذكرناه سابقا. وهذا يجعل من المثقف المنسلخ أو المثقفين المنسلخين مندرجين في «الفتنة القابيلية» أي قتل الانسان لأخيه الانسان لمجرد محاولة انتزاع ما يملك؛ مما جعل ثقافة القتل تستشري، وتجد قبولا من المثقفين، بل ان المثقفين المنسلخين أنفسهم، بما خانوا الانسان الأمانة وخانوا الثقافة وخانوا العوالم كلها، يبررون لقتل الانسان لأخيه الانسان، وينشرون ثقافة القتل، ولإخراجهم من حالة الانسلاخ الثقافي هذه لا بد من إخراجهم من المنظور الذي ينطلقون منه وينظرون من خلاله إلى العالم، كما يقول طه عبد الرحمن.
بعبارة أخرى، فإن تجاوز هذا العائق من عوائق النهضة؛ أي الحالة التي عليها المثقف المنسلخ، يتطلب مثقفا من نوع مختلف، يستمد من أصول غير التي يستمد منها المنسلخ، وينظر إلى العالم غير «النظرة الاحتيازية»، المفضية إلى «القابيلية»؛ هذا المثقف الجديد هو «المثقف المرابط» كما يقول طه عبد الرحمن، وهو الذي عليه القيام بتحويل جذري في الرؤية الكونية؛ الرؤية إلى العالم، لعلاج الخيانة التي وقع فيها المثقف المنسلخ.
مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية/ جامعة قطر

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com