اتجاهات

ثلاثيـــــة حديــــث نبــــــوي

عبد العزيز كحيل/

«إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قيلَ وَقالَ، وإضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ» رواه مسلم.
إنه حديث نبوي يرفع المستوى، قرأته وتأملته وتساءلت ماذا لو عملنا به؟ فهو حديث عظيم الفائدة، تصلح حياتنا الفردية والاجتماعية لو عملنا به، لأنه يرفع مستوى المسلمين إلى درجة الربانية الحقّة والإنسانية الفطرية، يجمع بين التربية الروحية والعلاقات الاجتماعية، يهدف إلى إصلاح اللسان وترشيد الاستهلاك وتعليم المنهجية السوية في التعامل مع المعرفة… ما ذكره الحديث ثلاثي مخيف، كثير الانتشار في مجتمعاتنا إلى درجة أصبح فيها هو الأصل، والناس كلهم يشتكون منه ويقعون فيه، أو يتهمون به غيرهم كأنهم يبرئون منه.
هذا الحديث يتجاوز مستوى الموعظة إلى قاعدة لبناء منظومة من الأخلاق والسلوكيات الإسلامية الحضارية، تؤسس لبناء حضارة عظمى، تستصحب الفهم العميق وتهدف إلى الرشد، حديث يضع بدقة بالغة وبإحاطة عجيبة الأسس الأخلاقية والسلوكية لبناء حضارة إسلامية قوية، منها أسس القوة الاقتصادية والرشد السياسي، والقوة العقدية، والمنهجية العلمية.
حديث يرمز إلى إضاعة الوقت، وكثرة السؤال فيما لا يفيد، وتبديد الطاقة العقلية التي هي أعظم مورد بشري، وإضاعة المال التي تعني تبديد الموارد المادية، فهذه أسباب للفقر وانهيار الاقتصاد على مستوى الفرد والمجتمع والدولة.
المحطة الأولى: قيل وقال: هو ما عليه الناس من الخوض صباح مساء وليل نهار في كل شيء بعلم وبغير علم خاصة مع انتشار وسائل التواصل… الجميع عالم دين، سياسي، محلل، واعظ، يحدث بكل ما رأى، وينشر كل ما سمع… فيسبوك يعج بالإشاعات والأخبار المفتعلة، يوتيوب كذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول «كفى بالمرء كذبًا أن يحدِّث بكلِّ ما سمع»(رواه مسلم)…الكثير من العلاقات الأسرية والاجتماعية والمهنية قطعت بسبب القيل والقال الذي يؤدي حتما إلى الكذب والغيبة، كما أنه مِن أسبابِ وقوعِ الفتنِ بينَ الناس، وتنافرِ القلوبِ، وحصولِ الخصوماتِ، والتّنازعِ مع بعض، لأنّ الناس تكره من يتكلم فيها، وتحمل في قلبِها عليه، وقد تقابِلُه بالمِثل، أو على الأقل تدعو عليه بما يكره، ذلك أن من يِشتغِل بتتَّبعِ أَحوالِ النّاسِ وينقلُها لِغيرِهِ، لَا يسلَم الناس مِن لسانه، كما أن الاشتغالَ بما لَا يغني مِن أَقْوال النّاس وأَحوالهِم وتصرُّفاتهِم يصيب القلُوبَ بِالغفلَة وَالقَسوةِ؛ ومن أمثلة ذلك ما نراه من الإسراع إلى مشاركة المنشورات على فيسبوك، ومقاطع فيديو مفبركة من غير التأكد من صحة محتواها.
ويدخل في الباب أيضا نقل الشائعات والنكت المكذوبة، ويكمن الحلّ في الالتزام بالهدي النبوي الكريم، ففي الصحيحين أَن النّبيّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «من كان يؤمِن باللَّه واليوم الآخرِ فلْيقُل خيرا أَو ليصمتْ»…فمن يطيق هذا؟ لكنه أفضل من إحباط العمل الصالح والمساهمة في إرهاق المجتمع المسلم بسلوكيات طائشة تهدم ولا تبني وتفسد ولا تصلح.
ولوسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية نصيب كبير في نشر هذه البلية.
المحطة الثانية: إضاعة المال: أحسن مثال على هذا هو ما ينفق على كرة القدم واللاعبين والمدربين من أموال خيالية من خزينة الأمة في حين يعاني الناس الحاجة والمسغبة، وكذلك ما يُنفق على ما يسمى الثقافة أي اللهو الفارغ واللغو المحرم من مهرجانات وغناء ومواكب الفارغات (كما سماها سيد قطب)، هذا على المستوى العام، أما على المستوى الفردي والعائلي فهناك التبذير الذي تشهده موائدنا والانفاق المبالغ فيه على الألبسة خاصة في الأعياد والمناسبات، وكل هذا يؤدي إلى الانهيار الاقتصادي في أجل من الآجال لأنه لا يترك مجال للادخارمن جهة، ولا الصدقات والمساهمة في الأعمال الخيرية النافعة من جهة أخرى، ومعلوم أن المال في الإسلام له دور اجتماعي مقترن بالإيمان سواء تعلق الأمر بترشيد الإنفاق أو وضع المال في وجوه البر التي تزخر بها المجتمعات، لذلك قال الله تعالى {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً}[سورة النساء 5]. والسفه هنا هو سوء التصرف في المال العام والخاص.
المحطة الثالثة: كثرة السؤال: أعتقد أن المعنى الصحيح هو كثرة طرح الأسئلة التي لا ينبني عليها عمل، وتلك التفصيلات الدقيقة التي لا تنفع لا في الدنيا ولا في الآخرة، والسؤال في المسائلِ الفقهيةِ تنطّعا وتَكلُّفا فيما لم يحصل، أو إحراجا لأهلِ العلم وطلابِه، أو امتحانا لهم، أو تلقُّطا لِزلَّاتِهم، أي ينبغى أن نتعلم منهجية السؤال لنحافظ على الأوقات ونبحث عمّا ينفعنا، فالحديث يشير إلى السؤال بغير آداب الطلب، وهو مشكلة كبرى في دنيا العلم، يذهب بالأوقات وببركة العلم، وقد يشحن الصدور بالمعاني السلبية، ويملأ العقول بالسلبيات بدل الإيجابيات، وتعلّم المنهجية – أي التزود بالأدوات الصحيحة لطلب العلم ثم في بثّه – أولى بكثير من الخوض في مسائل العلم بشكل غير متسق وغير مهذب، ولنا أن نتصوّر ما يحدث مع بعض شيوخ العلم الشرعي الذين يزدحم على أبوابهم الشباب من «طلبة العلم» من الفجر ليطرحوا عليهم أسئلة تافهة مثل جواز ارتداء معطف فوق القميص، فهذه مأساة، وشرّ منها أن الشيخ يخوض في المسألة بجد ويجعل منها قضية كبرى، ويفتي فيها «بالقرآن والسنة على فهم السلف الصالح» !!! فالمشكلة هنا أفقية وعمودية.
من شأن هذا الحديث أن يصلح حال الفرد والأمة والمجتمع ويضع القدم على طريق الإصلاح والصلاح خاصة إذا تبنته مؤسسات الدولة تربويا واجتماعيا ورسميا.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com