وعاظ السلاطــــين…
يكتبه د. محمّد قماري/
هذا عنوان كتاب ذاع صيته بعد وفاة مؤلفه، ومؤلفه هو الدكتور علي الوردي عالم الاجتماع العراقي، ومن طبيعي ألا يجد الكتاب ولا الكاتب من يحمد له صنيعه في مجتمعات عاشت على منطق التبرير، فكل اخفاقاتنا تعلّق على مشجب (القدر) أحيانًا، وربما على رقبة حلقات هشة في المجتمع حينًا، وربما نال بعض الحكام نصيبًا إذا تنكرت لهم الأيام ودارت عليها نوائب الدهر، فحينها يصفق الماكرون (مات الملك، يحيا الملك)، وتتبعهم الدهماء بعد أن وجدوا ما يخدروا به آلامهم إلى حين صحوة !
كان الدكتور علي الوردي يشرّح أوضاع المجتمع العراقي ومن خلفه المجتمعات العربيّة، بمشرط الجراح محاولاً غسل قيحِ طالت مدته، وفتق خراجات شوهت جسد الأمّة، وأعاقت حركتها، فلم ترض عنه المؤسسة الرسمية وتوابعها، ولم تأبه له نخب تائهة بين نماذج من الحلول تقرأ عناوينها، وتردد مقولاتها من أبراج عاجيّة، فيضيع الصوت والصدى، أما أفكار الوردي فكانت في مجملها سوطًا يلفح أجسامًا طال نومها، يقول الوردي: (فقد انشغل الناس بوعظ بعضهم بعضاً، فنسوا بذلك ما حل بهم على ايدي الطغاة من ظلم)…
ونسارع إلى التأكيد بأن أفكار الدكتور الوردي قابلة للمناقشة والتنقيح والمساءلة، لكن منهجه في تقليب الأوضاع جدير بالتوقف، ومساءلته للتاريخ والتراث حرية بالتأمل، وهو منهاج قلت نظائره بين من كتب ويكتب في محاولة فهم اخفاقنا الحضاري، وعدم قدرتنا على تجاوز روح (القبيلة) و(الطائفة)، والانتقال إلى تأسيس شبكة علاقات اجتماعية مبنيّة على (المواطنة)، وهو مفهوم له أسسه في منظومتنا الفكرية، وإن غاب أو غيّب في العديد من اجتماعنا في التاريخ وفي الحاضر، يقول الوردي: (لقد آن للعرب اليوم أن يفتحوا عيونهم ويقرؤوا تاريخهم في ضوء جديد) !
وضمن ذلك المضمار، مضمار قراءة التاريخ (في ضوء جديد)، جاء كتاب (الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلاميّة)، لمؤلفه الدكتور محمد بن مختار الشنقيطي، أستاذ الأخلاق السياسيّة في جامعة حمد في دولة قطر، والكتاب يندرج ضمن مجال المسكوت عنه عند (وعاظ السلاطين)، فالفقه الإسلامي الذي تمدد وتورّم في أبحاث (الأحوال الشخصيّة) و(أحكام الطهارة)، ضمر في مباحث (الفقه الدستوري) أو أحكام (الإمامة الكبرى)، وما هو مبثوث في طيات الكتب يغلب عليه المنطق التبريري لأفعال الحكام، منذ ذلك المنعرج الذي تلا (معركة صفين)…
وتحمد للمؤلف جرأته في اقتحام هذا الباب، محاولاً كما يقول عرض: (دراسة عن أزمة الشرعية السياسية في الحضارة الإسلامية)، وهو جزء من ذلك (السعي لاستعادة القيم السياسية التي جاء بها الإسلام في مجال بناء السلطة السياسية وأدائها)، ولأجل ذلك وقف المؤلف جامعًا للأسس (المعيارية) الخالصة التي بنى عليها الإسلام الفقه الدستوري، سواء ما تعلق بوظيفة الحاكم وعلاقته بالمحكومين أم تلك (الثقة) التي فقدها المسلم في ذاته، فانتقل من فكر مدرسة (النهضة) الباحثة عن شروطها في الحضور والغياب، أي ما ينقص المسلم لينهض وما الحاضر من عوائق في نفسية المسلم وواقعه، وانتقال المسلمين إلى البحث في (الهوية) على اعتبار أن المسلمين فقدوا اسلامهم!
إنَّ اجتهادات علي الوردي ومالك بن نبي، ومن قبلهما شكيب ارسلان والأفغاني وغيرهم، محاولات جادة في سبيل استكناه البنى الفكرية والنفسيّة لمجتمعاتنا، فالأزمة الدستورية وأزمة ضمور اجتهاد المؤسسة الدينيّة في مجال (السياسة الشرعيّة)، مع ما أصاب العقل المسلم ووجدانه العاطفي، فغدا أنانيًا يهوى أقصر الطرق إلى (عالم الأشياء) أو مقامرًا من أجل (الموت) تحت مسمى (الجهاد)، لأنه تشبع بفكر منحرف يجعل (الدنيا قنطرة) إلى الآخرة…
وكلا الفريقين يندفع بمنطق الطفولة، فمرة طفولة تتلهى بالأشياء كما يتلهى الأطفال باللعب، ومرة تخوض مغامرة الطفل الغرير وهو يعتقد أن (القنطرة) توصله إلى الجنة، دون الاجتهاد في بنائها وتشييدها، وتحقيق غاية (الخلافة) في الأرض التي تعني عمارتها وتشييدها ورفع قيم الخير والنفع لكل بني الإنسان: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ»(الأنعام/165)…
لقد وجدنا من وعاظ السلاطين من يجمع النصوص الواهيّة لتبرير أفعال الحكام، وتسويقها على أنها أحكام من الله يأمر فيها الأمة بأن تجعل من ظهورها مطيّة للظلم والعسف، لكن هناك أيضًا من يجعل من جمهور المسلمين أمة (دعوة للإسلام)، وقليلة تلك الجهود التي تسعى في طريق تحقيق (النهضة) والتنميّة، وتدعو المسلم إلى سلوك سبيل الفاعلية، والتزام الأخلاق الحضارية بأن يضرب في الأرض بكد يمينه وعرق جبينه، فاليد العليا خير من اليد السفلى.